ختمنا مقالة سابقة («الحياة» 18 تشرين الأول/أكتوبر 2010) بالسؤال التالي: ما هي الإجراءات التي ينبغي ان تقوم بها دول مجموعة العشرين لتحقيق الهدف الذي رسمته لذاتها في قمة بتسبورغ في أيلول (سبتمبر) 2009؟ ويُذكر ان الهدف الذي تسعى المجموعة إلى تحقيقه هو «النمو الاقتصادي العالمي القوي والمتوازن والمستدام القادر على تأمين فرص عمل للناس». نظرة سريعة إلى المشهد الاقتصادي العالمي كما رسمه صندوق النقد الدولي في إصداره الأخير «آفاق الاقتصاد العالمي - تشرين الأول 2010» تبيّن أنه مفرح بحذر، فقد واصل اكتساب مزيد من القوة في شكل عام كما كان متوقعاً، لكن أخطار الانزلاق لا تزال مرتفعة، فمعظم الاقتصادات المتقدمة وقليل من الاقتصادات الناشئة تواجه تحديات كبيرة في الإصلاح تتجسد في تقوية الموازنات العامة وتثبيت مستوى الدين العام ومن ثم تقليصه وتصحيح القطاعات المالية وإصلاحها وإعادة التوازن الداخلي والخارجي. وفي كثير من هذه الاقتصادات، لا يزال القطاع المالي يتعرض إلى صدمات والنمو آخذ بالتباطؤ مع وقف برامج الإنعاش المنفذة عام 2009 وارتفاع معدلات البطالة. وفي المقابل في الاقتصادات الناشئة والنامية، خصوصاً في آسيا، ما زال النشاط الاقتصادي يعتمد على الطلب في الاقتصادات المتقدمة أي على الصادرات. كما ان الحساب الجاري في ميزان المدفوعات ما زال غير متوازن إذ يتسم بفائض في مجموعة الاقتصادات الناشئة والنامية وبعجز في مجموعة الاقتصادات المتقدمة. ويخفي هذا التقسيم الثنائي بطبيعة الحال تفاوتاً في أوضاع موازين مدفوعات اقتصادات كل مجموعة. ففي مجموعة الاقتصادات المتقدمة، تعاني الولاياتالمتحدة من عجز في الحساب الجاري بينما تحقق ألمانياواليابان فائضاً في ميزانيهما الجاريين. وفي المجموعة الأخرى، تحقق الصين فائضاً بينما تعاني الهند وتركيا عجزاً. قد يفضي المشهد الاقتصادي الراهن إلى حروب على صعيد أسعار صرف العملات يخرج منها المتحاربون بخسائر من دون ربح لأحد. فخطر الانزلاق إلى حرب عالمية على صعيد العملات والتجارة يتصاعد إذ ينخرط العديد من الاقتصادات في لعبة الخفض التنافسي للعملات. والجميع يلعبون لعبة لا بد من خسارة بعض المنخرطين فيها . ويمكن إرجاع التوتر الراهن بين بعض أعضاء مجموعة العشرين إلى عدم تحقيق إعادة التوازن العالمي . فالدول التي كانت تنفق أكثر من دخلها، مثل الولاياتالمتحدة وبريطانيا وإسبانيا وغيرها وكانت مدينة وتحقق عجزاً في حسابها الجاري عليها ان تدخر أكثر وتنفق أقل على الطلب المحلي، وهي بحاجة إلى خفض أسعار صرف عملاتها لتتمكن من تقليص العجز في تجارتها الخارجية. وفي المقابل، تعمد الدول التي تدخر وتنفق أقل من دخلها مثل الصين واليابانوألمانيا وتحقق فائضاً في حسابها الجاري إلى معارضة ارتفاع أسعار صرف عملاتها وتقاومه لأن ذلك يقلص فائض حسابها الجاري وقد يزيد بالتالي من البطالة فيها. وتبرز عقدة أسعار الصرف كقضية محورية لإعادة التوازن العالمي في شكل واضح في المداولات والتصريحات الخاصة بعدد من وزراء المال في مجموعة العشرين الذين اجتمعوا في كوريا الجنوبية الجمعة. وناقش المجتمعون مقترحاً أميركياً بتحديد مستوى يعادل أربعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي لا يتجاوزه فائض الحساب الجاري في ميزان المدفوعات. وعارضت اليابانوألمانيا والهند الاقتراح وكذلك الصين. لا يساعد هذا المشهد الاقتصادي العالمي وما يشوبه من تحديات على تحقيق هدف مجموعة العشرين الذي رسمته لذاتها في اجتماع قمة بتسبورغ، فتحقيق الهدف المرسوم يستدعي التعاون بين أعضائها وتنسيق السياسات والإجراءات التي تنفذها كل دولة من دول المجموعة. وفيما يتسم الاقتصاد العالمي بشقيه المالي والعيني بأنه معولم إلى حد كبير، ويمثّل النشاط الاقتصادي لمجموعة العشرين نحو 85 في المئة من النشاط العالمي، ينعكس عدم الاستقرار والتراخي الاقتصادي في اقتصادات الكبار في المجموعة سلباً على الاقتصاد العالمي. تكون ترجمة هذا التعاون والتنسيق في إنجاز التوازن الداخلي والتوازن الخارجي. وبحسب تحليلات صندوق النقد، لا يزال التوازن الداخلي والتوازن الخارجي محدودين. وأدى ذلك إلى انتعاش يفتقر إلى القوة والتوازن وتهدده أخطار عدم الاستدامة. فقد كان تراكم المخزون والإنعاش المالي الاستثنائي القوتين الدافعتين للانتعاش الاقتصادي خلال عام 2009 والنصف الأول من عام 2010. ونظراً إلى العجز الكبير في الموازنات العامة وارتفاع المديونية العامة وتفاقمها، يجرى العمل بسحب تدريجي للإنعاش المالي. لذلك المطلوب هو ان يصبح المحرك للطلب المحلي الاستثمار والاستهلاك في دول الفائض والتصدير في دول العجز. ويتطلب تحسين الظروف الاقتصادية الراهنة استمرار المصارف المركزية في سياستها التوسعية الراهنة، ومواصلة الحكومات معالجة اختلالات القطاع المالي وإصلاحه وضبط أوضاع المالية العامة والإسراع في إعادة التوازن في الاقتصادات الناشئة التي تحقق فوائض كبيرة في حسابها الجاري. * كاتب متخصص في الشؤون الاقتصادية