تحت عنوان تنظيم العمل الإعلامي أقدمت وزارة الإعلام المصرية على الإيقاف الموقت لاثنتي عشر قناة فضائية خاصة، وإنذار عشرين قناة أخرى لتورطها في ممارسات تسيء للأديان والأخلاق وتروج للشعوذة، فضلاً عن مخالفتها ميثاق الشرف الإعلامي. كما قررت الوزارة ضرورة حصول القنوات الأجنبية على تصريح منها للبث المباشر للأحداث. وفي الوقت نفسه فرض الجهاز القومي للاتصالات ضوابط جديدة للرقابة على خدمة رسائل المحمول المجمعة، حيث اشترط حصول الشركات التي تمارس هذا النشاط على موافقة وزارة الإعلام والمجلس الأعلى للصحافة قبل توجيه الرسائل، وذلك منعاً لاستخدامها في أغراض دعائية أو دينية تثير التوتر الطائفي. السرعة التي اتخذت بها الحكومة هذه الإجراءات وفي فترة زمنية قصيرة، أثارت مخاوف داخل وخارج مصر من تقليص هامش الحريات التي يحظى بها الإعلام، واعتبر البعض هذه المخاوف حقيقة غير قابلة للنقاش أو التوقعات، فقد جاءت الإجراءات الحكومية قبل انتخابات مجلس الشعب الشهر المقبل، والانتخابات الرئاسية العام المقبل، وما يتردد عن التوريث ووجود مخطط أشمل لتكميم الإعلام، وتخويف المعارضين. ولعل ما يعزز تلك المخاوف أنها جاءت في أعقاب أزمة صحيفة «الدستور»، وإيقاف بث قناة «أوربت» لتأخرها عن سداد مستحقات مالية لمدينة الإنتاج الإعلامي على رغم وجود قنوات عدة لم تسدد ما عليها. وفي السياق نفسه تقرر منع تصوير وبث المحاكمات القضائية لتأثيرها السلبي على سير العدالة. في المقابل دافع الإعلام الحكومي عن الإجراءات السابقة واعتبرها ضرورية لتنظيم أداء الإعلام المصري، فلا حرية من دون ضوابط ومواثيق للشرف الإعلامي تضمن عدم المساس بالأديان وإثارة النعرات الطائفية والالتزام بالمعايير المهنية والأخلاقية للأداء الإعلامي، وأكد المدافعون عدم التراجع عن حرية الإعلام، والتي تميز الجمهورية الرابعة التي حققت حرية غير مسبوقة للإعلام المصري وسمحت بوجود الإعلام الخاص. وأكد المدافعون عن قرارات الحكومة أنه لا علاقة بين تنظيم الإعلام وتكميم حريته لتسهيل تزوير الانتخابات وأن هذه المخاوف تدخل في دائرة التأويل والتعليل المسبق لضعف أداء المعارضة في الانتخابات المقبلة والتي تعتبر نتيجة طبيعية لضعف وجودها في الشارع. هكذا ظهر مجال جديد يستوعب ويؤكد حالة الاستقطاب الدائم بين الحكومة والمعارضة، والتي أصبحت إحدى سمات التجربة السياسية المصرية والناتجة من الافتقار للثقة بين الطرفين وعجزهما عن عقد تفاهمات مشتركة في شأن المصالح العليا للدولة والمجتمع ومن بينها الإصلاح السياسي وتنظيم الإعلام مع ضمان حريته. وبعيداً من حالة الاستقطاب والشكوك المتبادلة بين الحكومة والمعارضة تظل هناك أسئلة مطروحة أهمها: هل تؤدي الإجراءات التي اتخذتها الحكومة إلى تنظيم الإعلام ومحاسبة بعض الفضائيات الخاصة التي وقعت بالفعل في أخطاء وممارسات مرفوضة؟ أم تقيد من حريته وتحول بينه وبين لعب دور المراقب المحايد في الانتخابات المقبلة؟ وهل الإجراءات التي اتخذتها الحكومة كافية لتنظيم الإعلام أم أن هناك خطوات أوسع مطلوبة لتنظيم الإعلام وضمان حريته؟ لا أمتلك إجابات مؤكدة، فكل الاحتمالات قائمة، في ضوء ما يأتي: أولاً: حدث تطور كبير في النظام الإعلامي المصري من حيث الكم والنوع وتعدد الخطابات المقدمة، حيث تصدر يومياً 21 صحيفة، ونحو 500 مجلة وصحيفة أسبوعية وشهرية، وتبث عبر «النايل سات» 54 قناة تلفزيونية مصرية منها 31 قناة خاصة، علاوة على مئات المواقع الإعلامية والصحف الإلكترونية وآلاف المدونات ومجموعات «الفيس بوك». والإشكالية هنا أن هذا التطور الإعلامي لم يواكبه تطور تشريعي ومؤسسي مماثل ينظم الأداء الإعلامي ويضمن حريته واستقلاله وحق المجتمع وحقوق الإعلاميين. إذ يعاني الإعلام من وجود قيود قانونية وإدارية وأمنية عدة، وآليات كثيرة للسيطرة على الإعلام وترويضه بعضها غير معلن، وكثير منها واضح بل ومستفز ولا يمكن تغييره إلا في إطار تغييرات قانونية وتنظيمية شاملة. وأشير هنا إلى تعثر محاولة إصدار قانون موحد للبث الإذاعي والتلفزيوني، وبالتالي استمرت القوانين القديمة التي تنتمي إلى الستينات والسبعينات عاجزة عن احتواء الأداء التعددي الصاخب للفضائيات والصحف الخاصة ومواقع الإنترنت، التي عملت من دون مواثيق شرف إعلامي ومن دون ضمانات تكفل للإعلاميين العاملين بها حق تشكيل تنظيمات نقابية أو مهنية تدافع عنهم. من هنا ظل تعامل الفضائيات الخاصة وحتى الأزمة الأخيرة وقرارات الإيقاف مع هيئة الاستثمار ومع مدينة الإنتاج الإعلامي و «النايل سات» وفق نظم بيروقراطية لا تتفهم طبيعة العمل الإعلامي وإشكالياته، وتطبق بطريقة انتقائية وموسمية، حتى أن كثيرين من خبراء الإعلام تساءلوا وبحق عن أسباب التأخير لسنوات عن إيقاف أو إنذار القنوات المخالفة. ثانياً: على رغم اتساع قاعدة النظام الإعلامي، وتنوع خطاباته، إلا أنه يعاني من أزمة هيكلية، تتجاوز دوره في الاستحقاق الانتخابي المقبل، وتهدد حريته وقدرته على التجدد والعمل وفق معايير مهنية وأخلاقية مُرضية، تكفل حق الجمهور في المعرفة والفهم. ولعل أبرز جوانب تلك الأزمة أن الإعلام المصري يخضع في شكل مباشر وفج للسياسة، وليس مشاركاً في صناعتها أو توجيهها. فالدولة تمتلك أكبر وسائل الإعلام وأكثرها تأثيراً، وتحرص على تقزيم دورها المستقل وربطه بتوجهاتها حتى لو جاء ذلك على حساب مستواها المهني. ثم يمتلك عدد محدود من رجال الأعمال أكبر الصحف والفضائيات الخاصة، كما يتحكمون في قسم كبير من كعكة الإعلانات. ولا تخفى شبكة المصالح والعلاقات المعقدة التي تربط هؤلاء بالحكومة. من هنا ثمة مخاوف حقيقية من تركيز الملكية الخاصة في الإعلام المصري، وأن يستبدل الإعلام المصري ملكية وهيمنة الدولة بملكية وهيمنة حفنة من رجال الأعمال. ثالثاً: على رغم السماح بامتلاك الأفراد والشركات للقنوات الفضائية والصحف الخاصة إلا أن القانون المصري لم يشجع الإعلاميين على الملكيات التعاونية لوسائل الإعلام وبنسب محدودة للغاية لا تتجاوز 1 في المئة، ولم يضع آليات لمنع تركز الملكية، ولضمان الشفافية والإفصاح عن مصادر تمويل الإعلام وأوجه الإنفاق، كما لم يضع القانون ضوابط وإجراءات تكفل الفصل بين الملكية والسياسة التحريرية، الأمر الذي برز في الأزمة الأخيرة لصحيفة «الدستور». والمفارقة أن القانون لا يسمح للصحافيين بتملك أسهم في الصحف بينما يسمح لأي مواطن بتملك 10 في المئة كحد أقصى من أسهم أي صحيفة، إلا أن هناك ثغرات وحيلاً قانونية تسمح بتملك أكثر من هذه النسبة. وكذلك لم يحدد القانون نسبة الإعلانات إلى المساحة الكلية من الصحف أو البث اليومي. رابعاً: عدم وجود هيئة أو هيئات مستقلة للإشراف على صناعة الإعلام في مصر أو للإشراف على الأداء الإعلامي، وهو أمر معمول به في كثير من دول العالم وعدد من الدول العربية التي يوجد فيها مجلس أعلى للإعلام يشارك فيه المجتمع المدني للإشراف على أداء النظام الإعلامي بكل مكوناته. أما في مصر فالمجلس الأعلى للصحافة يتولى بالتنسيق مع نقابة الصحافيين الإشراف على أداء الصحافة المطبوعة فقط، وينحاز المجلس في تشكيله الى الحكومة، كما أن نظام عمل المجلس ونقابة الصحافيين وصلاحياتهما ومواثيق الشرف الإعلامي المعمول بها حالياً غير قادرة على استيعاب التحولات المتسارعة في الساحة الصحافية بل وفي مفهوم الصحافة ذاته وتعريف الصحافي. فازدحام الساحة الصحافية بكثرة وتنوع الإصدارات لم يحقق زيادة في أعداد القراء أو تطور نوعي في الخدمات الصحافية. من هنا تنافس الجميع إضافة الى الفضائيات على إنتاج إعلامي فضائحي محلي يفتقر لكثير من القواعد المهنية والأخلاقية، وفشل المجلس الأعلى للصحافة ونقابة الصحافيين في تصحيح هذا المسار أو إلزام بعض الصحافيين بميثاق الشرف الإعلامي، كما الفشل في احتواء المواقع الإخبارية والصحف الإلكترونية. خامساً: اعتقد أن التقدم المتلاحق في تكنولوجيا الاتصال والإعلام قد أجبر النظام الإعلامي في مصر - وفي الدول العربية - على التغيير، ولكن من دون ترحيب من النخبة السياسية أو إدراك حقيقي لنتائج هذا التطور على مستوى تطوير البنية الإعلامية والقوانين والهيئات، والأهم تأثيرات ثورة الإعلام على المجتمع والرأي العام. من هنا يتجه تفكير النخبة لأمرين: الأول السماح بتعددية في الإعلام من دون حرية حقيقية، وعلى طريقة ديموقراطية التنفيس أو كما صار يعرف في مصر بأن الصحافة تقول ما تشاء والحكومة تفعل ما تريد، الثاني اللجوء الى المنع في حالة تجاوز السقف المسموح أو الخطوط المتفق عليها. وهو أسلوب غير فعال، ليس فقط لأن الأصل في الإعلام هو الحرية والإباحة بل كنتيجة حتمية للتطور في تكنولوجيا الاتصال والإعلام التي جعلت المنع أقرب إلى المستحيل. في هذا الإطار قد تتحول الشركات التي تمتلك القنوات الفضائية الموقوفة إلى البث من خارج المنطقة، وقد يرسل المتطرفون رسائل جماعية عبر الجوال من خارج مصر. وقد تعتمد القنوات الأجنبية في تغطية الانتخابات على جهود الأفراد العاديين الذين توفر لهم تكنولوجيا الاتصال كاميرات صغيرة وهواتف مزودة بكاميرات ذات جودة مقبولة لتسجيل وبث الوقائع الحية للانتخابات وغيرها من الأحداث. كل ذلك يؤكد أن رهان المنع غير عملي فضلاً عن لا أخلاقيته، فالقدرة على البث المباشر عبر أقمار غير عربية اختيار متاح، وشبكة الإنترنت وما توفره التكنولوجيا للمدونين ونشطاء المجتمع المدني متاحة ورخيصة ويصعب السيطرة عليها أو مراقبتها. وبالتالي لا بديل سوى الحوار بين كل الأطراف، ومن كل الاتجاهات، للاتفاق على قوانين جديدة تحدد العلاقة بين الملكية والتحرير، وتمنع تركيز الملكية، وتشجع الملكية التعاونية في الإعلام، وتدعم الدور الرقابي للمجتمع المدني وحقوق المواطنين في الاتصال. مع ضرورة الاتفاق على قواعد ومدونات أخلاقية ومهنية، وهيئات إشرافية مستقلة تنظم عمل الإعلام ولا تقيد حريته. * كاتب وجامعي مصري