لم تكن هناك بطالة واضحة في السعودية وبقية دول الخليج العربية إلا بعد انطفاء شعلة ما صار يُعرف بالطفرة الاقتصادية الأولى التي اشتعلت في منتصف السبعينات من القرن الماضي وانطفأت بنهايتها. فخلال فترة الطفرة تحوّل كثير من السعوديين والخليجيين عامة الى أرباب عمل يستقدمون من يعملون لديهم من دول فقيرة كثيرة السكان يقبل أبناؤها العمل بأبخس الأجور. ولكن عائدات البترول التي كانت وقود شعلة الطفرة بدأت تتضاءل في بداية الثمانينات، ومع تضاؤلها تضاءلت كمية وقود الشعلة حتى انطفأت. فماذا حصل لمئات الآلاف من المؤسسات التي أُنشئت خلال فترة الطفرة؟ بعضها أفلس وانتهى، وبعضها استطاع ان يستمر إذا كان بين من استقدم من منسوبيها من استطاع ان يدير المؤسسة بطريقة مربحة. ولكن الأخطر والأكثر تدميراً لفرص توظيف المواطنين هم من تخصصوا في التجارة البشرية، أي الذين يستقدمون المئات وأحياناً الآلاف ويتقاضون مقابل ذلك ثمناً مضاعفاً أولاًَ من سماسرة مكاتب العمل الأجنبية في البلدان التي أتى منها المستقدمون ثم من داخل بلداننا، إما ببيع «الكفالة» مباشرة أو بترك هذه الجحافل من العمالة «السائبة» في الشارع للبحث عن عمل، ثم تقاضي دفعات من هؤلاء المساكين كلما أتى وقت تجديد الإقامة أو نقلها الى رب عمل آخر. كان أبناء الخليج قبل اكتشاف البترول وبعد اكتشافه، بل وحتى مستهل السبعينات من القرن الماضي هم الذين يؤدون أعمالهم كافة بأنفسهم أياً كان مستواها من أعمال النظافة وإعداد الطعام وبيعه وزراعة المزروعات وحصدها وتولي تجارتهم وتنفيذ مبيعاتهم بأنفسهم. وما كنا نجد في محلات البيع البسيطة في «الدكاكين» الصغيرة وشوارعها الضيقة عمالة أجنبية. كل من كنا نرى ونتعامل معهم من أهل «الديرة» أو «البلد» وجميع بائعي الأغذية والأطعمة سعوديون. وكذلك جميع سائقي التاكسي والحافلات من المواطنين. وحتى عام 1974 اذكر ان أبناء قبيلة سعودية معينة كادوا يحتكرون قيادة وامتلاك سيارات التاكسي في المنطقة الشرقية من السعودية. ولكن الاستقدام تدريجياً غيّر ذلك كله. في بداية الطفرة لم تكن هناك بطالة لان الإدارة الحكومية أيضاً توسعت لإدارة منشآت التنمية وكانت في حاجة الى توظيف المواطنين. وكل من كان يبحث عن عمل حكومي يجده ما دام يستطيع أن يفي بالحد الأدنى من القدرة على شيء من القراءة والكتابة. أما إذا كان جامعياً، مهما كان حقل الدراسة «تعيساً» فلا بد من «دق الطبول» بحسب عبارة الصديق الأستاذ ناصر الصالح، لجذب الجامعي للعمل في الخدمة الحكومية والبقاء فيها أكثر من بضع سنوات. ومنذ بدأت عائدات البترول تتناقص، تناقصت قدرة الخزانة العامة على توظيف المواطنين، والاهم انتهت الحاجة الى توظيف كل خريج بسبب تشبع المصالح الحكومية والتغيرات السريعة التي أحدثت الطفرة. وهنا انطلقت أول شرارة من نار بطالة المواطنين الذين وجدوا أنفسهم لا يستطيعون منافسة العمالة المستقدمة ليؤدوا الأعمال التي كان يؤديها آباؤهم وأجدادهم، وفي الوقت ذاته لا يجدون عملاً في الأجهزة الحكومية. خلق «الاستقدام» بطالة «هيكلية». والمقصود بالبطالة «الهيكلية» هي التي لا علاقة لها بالدورات الاقتصادية، كتلك الدورات المرتبطة بتغيرات مستويات أسعار النفط، فارتفاع أسعار النفط الى مستويات عالية جداً قبل نحو ثلاث سنوات لم يقلل من نسبة بطالة المواطنين. البطالة الموقتة هي المرتبطة بالدورات الاقتصادية كالموجودة حالياً في أميركا وأوروبا بسبب الكارثة المالية، والتي ستزول أو تتناقص بانتهاء آثار هذه الأزمة المالية بالحد من سرقات وحيل لصوص أسواق المال وتنظيم التعاملات المالية بقدر يحد من مغامرات السماسرة ورؤسائهم بأموال المودعين. أما البطالة الهيكلية الموجودة حالياً بنسب متفاوتة في دول الخليج العربية، فلا تزول إلا بزوال أسبابها. وأهم أسبابها «الاستقدام» في معظم دول الخليج. ويعضد الاستقدام ويعينه في التقليل من فرص عمل المواطنين في السعودية بدرجات أكثر من غيرها من بين دول مجلس التعاون لدول الخليج، التعليم غير الملائم لمتطلبات سوق العمل. ولكن نظام التعليم وعلى كل مستوياته من العام الى الجامعي، بل والتدريب أيضاً في المملكة العربية السعودية، بدأ يتغيّر تغيراً جذرياً ايجابياً بالتركيز على المواد والتخصصات العلمية والفنية. ويأمل كل متابع لشأن التعليم أن يعاد تأهيل المعلمين بما يؤهلهم لتعليم المواد العلمية والفنية بطريقة جذابة لا منفّرة للطلاب. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي.