يحق للمرء ان يقلق من الخلل والتقلبات القائمة في أسعار صرف العملات الرئيسة، وفي مقدمها الدولار، خصوصاً ان دولاً صناعية وناشئة تتدخل في شكل مباشر لرفع قيمة عملاتها في شكل مصطنع لدعم صادراتها وضمان فوائض تجارية من دون مراعاة تُذكر لمصالح شركائها. غير أن الذهاب إلى تسمية هذا الخلل بمثابة حرب عملات سببها تدخل الصين لرفع قيمة عملتها اليوان فيه ما يكفي من المبالغة، خصوصاً ان بكين ساهمت في شكل فاعل مع مجموعة العشرين في نزع فتيل الأزمة المالية العالمية التي كادت ان تودي بالنظام النقدي الدولي إلى الهاوية. فالمسؤولية لا تتحملها الصين بمقدار ما يتحملها النظام النقدي الدولي الذي كرسته الولاياتالمتحدة والدول الصناعية الكبرى على مر العقود الستة الماضية. وفي هذا السياق يكفي، مثلاً، إلقاء نظرة على سياسات الحكومات الأميركية التي سهلت استيراد البضائع الرخيصة من الصين وغيرها، وعندما يحين موعد الدفع تلجأ إلى طبع مزيد من الدولارات ووضعها في تصرف المستهلك الأميركي من دون فوائد تذكر. وبذلك تهرب هذه الحكومات إلى الأمام من مواجهة المشكلة التي يزداد عبئها يوماً بعد يوم من خلال تراكم ديون خيالية مؤجلة الدفع على القوة العظمى. إنها «رأسمالية الكازينو» البعيدة من مستوى الواقع الاقتصادي، على حد تعبير صحيفة «تراو» الهولندية. مما لا شك فيه ان تدخُّل دول كالصين والبرازيل واليابان من أجل الحفاظ على أسعار منخفضة لعملاتها إزاء الدولار والعملات الرئيسة الأخرى لا يساعد على تجارة عالمية متوازنة. لكن من السذاجة بمكان ربط العجز التجاري الأميركي بسعر اليوان الصيني الحالي. فهذا العجز يعكس سياسات مالية تقوم على التمويل بالعجز من طريق مطابع العملات، كما يعكس تراجعاً في كفاءة الصناعة الأميركية وفي قدرتها على المنافسة، ليس في السوق الصينية وحسب، بل في مختلف الأسواق العالمية. وإذا لم يكن الأمر كذلك كيف يمكن تفسير الزيادة المطّردة في الواردات الصينية من ألمانيا وتركيا ودول أخرى، ليس فقط في مجال التقنيات العالية، بل وحتى في مجالات الألبسة والأغذية والأدوية والمنتجات الوسيطة وغيرها؟ يتطلب صعود الصين كقوة اقتصادية عالمية منها تحمل مسؤولياتها على الصعيد الدولي أيضاً. ومن ضمن ما يعنيه ذلك إبداء مزيد من المرونة إزاء تحرير عملتها وتخفيف التدخل في سعرها في المدى المنظور. أما في المدى الطويل فعلى بكين إخضاع عملتها للعرض والطلب أسوة بالدولار واليورو وعملات رئيسة أخرى كي تُتاح لشركائها فرص أفضل للمنافسة في السوق الصينية الواعدة. ومن شأن ذلك ان يخفف من العجز التجاري معها في شكل لا يضرّ بالصناعة الصينية في شكل ملموس. ويمكن الوصول إلى هذا الهدف من خلال إجراءات متنوعة، أبرزها تشجيع الطلب المحلي الصيني من طريق الإسراع في دعم تشكل شرائح طبقة وسطى ذات قدرة شرائية عالية. ويرتبط تحقيق هذا الهدف أيضاً بإعطاء بكين والدول الناشئة الأخرى مزيداً من الحقوق على صعيد اتخاذ القرار في المؤسسات المالية والنقدية الدولية، وفي مقدمها صندوق النقد الدولي، في شكل يتناسب وثقلها الاقتصادي. أعلنت بكين أخيراً عن اتباعها مزيداً من المرونة في سعر صرف عملتها، غير أن ذلك لم يُترجم حتى الآن إلى زيادة سعرها إزاء الدولار سوى بنحو اثنين في المئة. أما في ما يتعلق بدعم تشكيل طبقة وسطى، فلم تقطع سياسات زيادة الأجور والحوافز خطوات جوهرية خلال الأشهر الماضية على رغم ان البرامج الحكومية الصينية تتضمن العمل على هذه الزيادة. وعليه فإن على بكين إظهار مزيد من الجدية في هذا المجال. وتشكل قمة الدول العشرين القادمة خلال تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل في كوريا الجنوبية فرصة نادرة لذلك، خصوصاً ان الأجواء بينها وبين واشنطن ومعها الدول الغربية الأخرى ملبدة بالغيوم على ضوء الاتهامات المتبادلة في مجال أسعار الصرف. وإذا لم تفعل ذلك، فستبرز أخطار حقيقية من اتخاذ مزيد من الدول الصناعية والناشئة إجراءات حمائية تلحق أضراراً فادحة بالتجارة العالمية، وتهدد بانهيارات أخطر بكثير من تلك التي حدثت خلال الأزمة المالية العالمية التي لم تندمل جروحها بعد. لا يمثّل رفع قيمة العملة الصينية وتشجيع الطلب المحلي مجرد خطوة جوهرية لإشاعة الهدوء والثقة في الأسواق العالمية، بل سيفتح فرصاً جديدة لصادرات الدول النامية، ومن بينها الدول العربية، إلى السوق الصينية الواعدة. ولعل الأمر الجيد على هذا الصعيد ان هذه السوق لا تحتاج فقط إلى المواد الأولية ومصادر الطاقة، بل كذلك، وفي شكل متزايد باطّراد، إلى منتجات الصناعات التحويلية الخفيفة والأدوية والمنتجات الغذائية والأنسجة والألبسة وغيرها من المنتجات التي تصدرها دول عربية كمصر وسورية والمغرب وتونس. ولعل من الأمور الأكثر أهمية هنا ان رفع تكلفة البضاعة الصينية سيساعد على تحسين قدرة البضائع العربية على المنافسة في الأسواق العربية المحلية التي اكتسحتها المنتجات الصينية. * كاتب متخصص في شؤون الاقتصاد - برلين