كثيراً ما عنّ لمراهقين ويافعين بيننا، ولحركات شبابيّة صغرى، أنّهم يستطيعون «توظيف» قوى أكبر منهم بكثير. هكذا، عن طريق الانخراط فيها (الدخوليّة في القاموس الحزبيّ)، أو التقرّب منها، أو التشبّه بها، يجرّون تلك القوى الكبرى إلى موقعهم ويحملونها على تنفيذ «برنامج» أولئك المراهقين. وهذا سلوك سبق لمنطقتنا أن عرفته في عدد من الماركسيّين – الماويّين الذين توهّموا، في أواخر السبعينات، أنّهم «يوظّفون» الإسلام والثورة الخمينيّة لمصلحة «قضيّة الطبقة العاملة» و «النضال ضدّ الإمبرياليّة». لكنْ لأنّ الإسلام والثورة الخمينيّة أكبر بلا قياس منهم، انتهى الأمر بمعظمهم وقد أرخوا لحاهم وحملوا السبحات وراحوا يرابطون في المساجد. وهي عقليّة غالباً ما تشي بأعمار أصحابها. فاليافعون والمراهقون يستهويهم التشاطُر والتذاكي اللذان لا يعبآن بالواقع ولا يلويان على شيء، فيما يقول علم النفس إنّ الشعور بالموت لا يأتيهم، بل يملأهم حسّ الخلود. أمّا الإنشاء فيقول فيهم إنّهم يطلبون المستحيل و «بورك بالطامحين» منهم، حسب بيت شعر شهير. و «التوظيف» فيه شيء من طلب المستحيل. هكذا يتراءى لقادة تنظيمات وأحزاب طفّلها صغر حجمها وهامشيّة دورها، وأبقاها حبيسة الطفولة الخالدة، أنّهم «يوظّفون» إيران ل... خدمة قضاياهم. فليس مهمّاً أن يعد الرئيس محمود أحمدي نجاد بقدوم المهديّ مصحوباً بالمسيح كي يحرّرا فلسطين، وليس مهمّاً كلّ ذاك النظام الطقسيّ والرمزيّ الموسّع في دلالاته الدينيّة والمذهبيّة، وليس مهمّاً طغيان اللون الأسود والعظات التي يبثّها تلفزيون «المنار» بلا انقطاع، وليس مهمّاً ارتفاع تلك القبضات المشدودة في الهواء على نحو لم نعهده منذ موسوليني، وليس مهمّاً موقف إيران الرسميّة من التعدّد ومن الحريّة ومن الاقتصاد. المهمّ أنّ الشبّان أولئك «يوظّفون» إيران في معركتهم ضدّ أميركا وإسرائيل. ولا ينفع في الردع عن الغيّ التذكيرُ بأنّ تاريخ هذا الصنف من المعارك كان دائماً، وبلا استثناء واحد، برهاناً على صحّة العكس: على أنّ الأكثر دينيّة ومذهبيّة يوظّف الأقلّ دينيّة ومذهبيّة، وأنّ الأكثر عداء للحريّة ولمساواة المرأة بالرجل يوظّف الأقلّ عداء للحريّة والمساواة. بيد أنّ الأعمار لا تكفي لتفسير الانتفاخ الذاتيّ الذي يزيّن لأصحابه الكثيرين القدرة على «التوظيف». ففريدريك إنغلز، رفيق كارل ماركس، كان متقدّماً في السنّ حين تراءى له أنّه يوظّف بيسمارك الذي، بإنجازه الوحدة الألمانيّة، «يقوم بجزء من عملنا». لكنّ المستشار الألمانيّ ما لبث أن وضع قوانينه المناهضة للاشتراكيّة، وأنشأ نظاماً بوليسيّاً حُرّم فيه النشاط السياسيّ على أتباع أنغلز. ومن هذا القبيل، وبخفّة أكبر بلا قياس، ثمّة اليوم مسنّون في لبنان يتوهّمون التالي: في وسعنا أن نوظّف إيران في معركتها لكسر العقوبات، وربّما للتحوّل قوّة نوويّة، وفي وسعنا أن نوظّف ذاك الحلف الممتدّ من غزّة إلى طهران، من أجل إيصال أكبرنا سنّاً إلى... رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة! أليس اللبنانيّ ذكيّاً حقّاً، ذكيّاً إلى الحدّ الذي يتيح له أن يسحر العالم ويموّه الفارق بين الطفل والكهل؟