يبرز موضوع خفض العملة الصينية كجزء من صورة أكبر وأشمل تجمع اختلالات بنيوية في النظام الاقتصادي العالمي. وإذ يبدو أن على دول في العالم أن تواجه بوادر خلافات جديدة قد تحمل في طياتها آلياتٍ تساهم في إنقاذ الاقتصاد الأميركي، إلا أن الأمر يحمل نذر سحب تتجمع في سماء مصالح دول أخرى تسعى جاهدة إلى إبعاد الكأس المرة عن اقتصاداتها. وعلى رغم دعوات صاخبة من الولاياتالمتحدة، ومناشدات أكثر تحفظاً من جانب أوروبا واليابان وغيرهما، لم ينجح الاجتماع السنوي لصندوق النقد الدولي في الضغط على الصين لرفع سعر عملتها، وإن تم ذلك بوسائل مختلفة وعبر سبل وصيغ لم تستطع إلزام المارد الآسيوي بأي منها. وكان ترحيل الموضوع إلى اجتماع زعماء مجموعة العشرين الحل الأمثل لتفادي تفجر الأزمة. وفيما أعلن رئيس الوزراء الصيني أن تعويم العملة الصينية اليوان قد يتسبب بكارثة عالمية، أشار أيضاً إلى أن الشركات الصينية المصدّرة لا تحقق هامشاً كبيراً من الربح، وبالتالي يمكن أن يلحق بها ضرر فادح قد يتسبب باضطرابات اجتماعية. وفي متابعتنا لهذه المعطيات، وبالعودة الى محنة انهيار اقتصادات النمور الآسيوية نهاية تسعينات القرن العشرين، نجد أن خفض العملة كان أحد الأسباب الرئيسة لتلك المحنة التي طاولت دول العالم. كذلك أدت انهيارات العملات الوطنية خلال السنوات الثلاثين الماضية، إلى إلحاق الضرر باقتصادات هذه الدول، وبدرجاتٍ مختلفة من دولة إلى أخرى، تبعاً لعوامل ذاتية تتعلق بالبنية الاقتصادية للدولة وتنوع قطاعاتها الإنتاجية. لكن النتائج الاقتصادية والاجتماعية الناتجة من انهيار العملات كانت كبيرةً بكل المقاييس، نذكر منها، مثلاً، الإضرار بالمدخرات الوطنية لدى الدولة والمواطنين تبعاً للنسبة التي انخفضت فيها قيمة العملة، أو ربما أكثر، مباشرة عقب الإعلان عن عملية الخفض، وهروب رؤوس الأموال الوطنية إلى الخارج بحثاً عن الأمان والاستقرار والاستثمار المريح والمربح، علاوة على ارتفاع أسعار السلع الاستهلاكية والخدمات وانخفاض قيمة الدخول والأجور. وأثّرت سلباً في أصحاب المعاشات والمقترضين بالعملة الصعبة لتمويل شراء منازل أو مشاريع تجارية، ويكون من النتائج المباشرة للارتفاع، انتشار الفقر والبطالة ومن ثم المجاعة. وعلى رغم أن انخفاض قيمة العملة قد يشجع الصادرات الوطنية، إلا أنه يزيد في الوقت ذاته تكلفة الواردات ويرفع معدلات التضخم. ومع ارتفاع معدلات التضخم، سيضطر المصرف المركزي في البلد المعني إلى رفع معدلات الفائدة، ما ينعكس على النمو الاقتصادي في البلاد. وتستنزف الخطوة في الوقت ذاته احتياط الدولة من العملات الأجنبية في عملية الدفاع عن العملة من خلال ضخ مزيدٍ من الأموال في السوق لتهدئة المخاوف الاقتصادية، وهو ما يسبب عجزاً كبيراً في ميزان المدفوعات. وبحسب تقرير ل «أونكتاد»، يُعتبَر انخفاض سعر العملة لتعزيز القدرة التنافسية سلاحاً ذو حدين في ما يتعلق بالاستثمار، إذ يمكن جذب التدفقات الاستثمارية إلى الدول بجعل الأصول رخيصة وتعزيز قدرة الصادرات على المنافسة، لكن الخطوة قد تخفض أيضاً قيمة أرباح الشركات من وحداتها الأجنبية، ما يقلل من جاذبية الاستثمار في تلك الدول بالنسبة إلى الشركات المتعددة الجنسيات. هذه جوانب فقط من آثار خفض العملة من الناحية الاقتصادية. لذلك فإن معالجة تباطؤ انتعاش الاقتصاد الأميركي في شكل خاص، والاقتصادات الأوروبية في شكل عام، هي أكبر من موضوع خفض العملة الصينية، وقد تكشّف ذلك في صورة أوسع بعد أزمة الديون السيادية اليونانية. من هنا على صندوق النقد الدولي أن يلعب دوراً أكبر في رصد تأثير سياساتٍ تتبناها دولٌ أعضاء في أعضاء آخرين، ويجب الابتعاد عما يسمى بحرب العملات، حيث تخفض دول أخرى عملاتها لتكون قادرة على منافسة الصين في السوق العالمية في صورة أفضل. إن معالجة مشاكل الاقتصاد العالمي في حاجة إلى عمل جماعي، وهذا يعني وجوب القيام بتنازلات متبادلة من الأطراف كلها، وتقع على عاتق الدول الكبرى مسؤولية المساهمة في إيجاد حلول مناسبة تحقق هذا المبدأ من دون أن تكون هذه الحلول مبنية على حساب الدول الأخرى ومصالحها. * رئيس «اتحاد المصارف العربية»