بدأ الصراع يحتدم بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام الناصري الذي بلغ أقصى ذروته بعد اتهام الجماعة بمحاولة اغتيال جمال عبدالناصر في حادثة المنشية الشهيرة «26 تشرين الأول (أكتوبر) 1954»، وهو ما أسفر عن حملة اعتقالات ومحاكمات واسعة طالت الآلاف من قادة وأعضاء الجماعة، ما اضطر الجماعة للهجرة والهروب من ظلم النظام الناصري والبحث عن المكان والملاذ الآمن، فكانت السعودية الخيار الأفضل والأنسب لاعتبارات كثيرة، وتنوعت وجهات النظر حول توصيف هجرة الإخوان المسلمين إلى الأراضي السعودية، فثمة باحثون يعتبرون أن استقبال واستضافة السعودية للإخوان المسلمين، خصوصاً في عهد الملك فيصل، يُعد نوعاً من اللجوء والضيافة لكل من يلقى الاضطهاد في بلده، وليس استقطاباً أو استقداماً لهم، وهو ما أشار إليه الأمير تركي الفيصل في لقائه التلفزيوني على قناة العربية في برنامج إضاءات، بتاريخ «26 أكتوبر 2005»: من أن قدوم قادة جماعة الإخوان المسلمين وغيرها من الأحزاب في تلك المرحلة كان يعد لجوءاً وليس استقطاباً، وقال «كان الملك فيصل، يرحمه الله، يُخاطب من قبل كل القيادات السياسية والحزبية في العالم العربي، سواء من الإخوان المسلمين، أو من غير الإخوان بما يرونه وفقاً لرؤيتهم وبحسب معتقداتهم وتوجهاتهم، الذين تعرضوا للتهميش والظلم في مصر كانوا يلجؤون للملك فيصل بطلب اللجوء والقدوم للمملكة، وذلك كان يشمل كل التيارات السياسية ولم يكن مختصاً بالإخوان المسلمين». ثمة وجهة نظر ترى توسعاً أكثر في القضية، وذلك بالنظر للظروف والمتغيرات والمبررات كافة التي تفيد بأن الإخوان المسلمين تم استقدامهم واستقطابهم لتحقيق الكثير من الأغراض في تلك المرحلة، وأشار الباحث المختص في شؤون الحركات الإسلامية عبدالله بن بجاد، في أهم وأميز الدراسات التي كتبت عن تاريخ جماعة الإخوان المسلمين في السعودية، ونشرت أخيراً ضمن إصدارات مركز المسبار للدراسات والبحوث، إلى أن السعودية كانت تملك جملة من الأسباب الواقعية لاستقطاب جماعة الإخوان التي من أهمها: الأول: مواصلة السعودية لسياسة الملك عبدالعزيز في استقطاب النابهين من العالم العربي في شتى المجالات، مع التفريق بين من تم استقطابهم للاستفادة منهم في شؤون الدولة، وغالبيتهم من المثقفين العرب، وبين من تم استقطابهم بغرض تخفيف حدة التوتّر الديني الداخلي كحافظ وهبة وغيره. الثاني: سعي المملكة لمواجهة المدّ الناصري الثوري، خصوصاً بعد مناصبته العداء للملكيات العربية، فتبنّت السعودية دعم التضامن الإسلامي في وجه المدّ الناصري. الثالث: السعي إلى تطوير الخطاب الديني المحلي، بعد الممانعة والرفض الصادر من بعض قادة هذا الخطاب تجاه بعض قرارات تطوير الدولة وتحديثها، من خلال الاستعانة بالإخوان المسلمين لتقديم الحلول الشرعية لتلك الأنظمة الحديثة. الرابع: مواجهة التحديات الداخلية المتمثلة في تطرف الخطاب الديني والتنظيمات الثورية الحزبية، سواء القومية أو البعثية أو الشيوعية، التي كانت تتبنى معرضة النظام بصراحة ووضوح، وأما النظر في مدى تحقق الحاجة والمصلحة لتلك الدواعي والمبررات فهذه تحتاج إلى دراسة متخصصة على حدة. بدأ قادة الإخوان المسلمون بعد قدومهم للأراضي السعودية، وعلى رغم عدم السماح لهم مطلقاً بتشكيل تنظيم معلن خاص بهم، أو من ممارسة العمل السياسي بترتيب صفوفهم من حيث القيادة والأعضاء، وبدؤوا بتحركاتهم من أجل القيام بتحقيق أهدافهم في نشر دعوة الإخوان من خلال اختراق الكثير من الميادين والجهات التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً، وكذلك دعم ومساندة تنظيم الإخوان الأم في مصر. يقول أحد ضباط التنظيم السري للإخوان علي عشماوي في مذكراته «التاريخ السري لجماعة الإخوان»، تحت عنوان «قيادات المهجر»، ص 151: «التقيت خلال زيارتي للسعودية في موسم الحج بمحيي هلال أحد الإخوان الذين هاجروا إليها، وقد سألته حينها عن حال الإخوان، فأجاب: بأن الإخوان في السعودية اختاروا منّاع قطّان مسؤولاً عنهم، وأشار إلى أن منّاع قطّان هو أحد إخوان المنوفية، وقيل إنّه أوّل مصريٍ يجرؤ على تجنيد سعوديين في دعوة الإخوان في مصر للشباب السعودي، ولذلك فإنه فرض نفسه مسؤولاً عن الإخوان في السعودية من دون استشارة أحد، وقد سأل بعد ذلك محيي هلال عن حاجات تنظيم الإخوان في مصر من المال والخدمات التي يمكن تقديمها إليهم من الإخوان في السعودية». فأجابه عشماوي: «إننا في حاجة للسلاح أكثر من المال». وتابع: «فطلب مني أن أكتب كشفاً بما يحتاجه الإخوان في مصر. وقال «ص200» في سياق عرضه لأحد الخطابات المقبلة من السعودية على سيد قطب: «إن سيد بعد أن اطلع على الخطاب أبدى إعجابه الشديد بالإخوة في السعودية وقال: إن هذا دليلٌ على أنّهم منظمون جداً، وأنهم على كفاءة عالية من العمل». ولعل أبرز التحركات كما ذكر عبدالله النفيسي «في كتابه الفكر الحركي للتيارات الإسلامية ص36» كانت بعقد المرشد الثاني حسن الهضيبي في موسم حج 1973 اجتماعاً موسعاً للإخوان في مكة المكرّمة، وكان هذا الاجتماع هو الأوّل من نوعه منذ محنة 1954، وذلك بغرض إعادة تشكيل مجلس شورى الجماعة وتكوين لجنة للنظر في عضوية الإخوان العاملين من أجل بناء هيكل الجماعة فتشكّلت لجنة الكويت، ولجنة قطر، ولجنة الإمارات، وثلاث لجان بالسعودية في الرياض، وفي الدمّام، وفي جدّة، وكان من نتيجة تلك الاجتماعات استيعاب المملكة للمزيد والمزيد من الإخوان المسلمين. وشهدت المملكة في منتصف السبعينات حركة نهضة واسعة بقيادة الملك فيصل كان من نتائجها انفتاح المملكة واستيعابها لمئات الآلاف من الكوادر المؤهلة والمتخصصة في كل المجالات العلمية والصحية والهندسية والإعلامية؛ وهو ما تنبّه له الإخوان جيدًا فعمدوا إلى إرسال أعداد كبيرة من كوادرهم المؤهلة في تلك المجالات، وعلى رأسها التربوية والتعليمية، وبدأ الإخوان بتشكيل خلاياهم الحركية والتنظيمية في كل مكان وجدوا أنفسهم فيه، ولعل أبرز المجالات التي تم اقتحامها المحاضن التربوية من مدارس ومعاهد وجامعات، مستغلين غض طرف السلطات عنهم، وحال قبول المجتمع المتدين بطبيعته لمضامين خطابهم الوعظي الإرشادي، فكان للكثير من قادتهم دور كبير في تأليف المناهج الدراسية وبرز في هذا المجال مناع القطان ومحمد قطب وغيرهما، ووجدت كذلك أعداد كبيرة من الأساتذة المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين، أو المؤيدين لخطابهم الثقافي في الجامعات ممن كان لهم دور وأثر كبير في تلك المرحلة، وكذلك سيطر الإخوان المسلمون على قيادات رابطة العالم الإسلامي كافة، والمؤتمر الإسلامي، والندوة العالمية للشباب الإسلامي وغيرها من التنظيمات الإسلامية التي أقامتها السعودية في الستينات للوقوف سداً منيعاً في وجه المد القومي واليساري، لدرجة أن المرشد السابع لجماعة الإخوان محمد عاكف قال «في سلسلة لقاءات وحوارات على قناة الحوار عن الفترة التي عاشها في السعودية»: «لقد حققت في تلك الفترة كل ما كتبته للشباب الإسلامي وأنا في السجن، فقد كان برنامج الندوة العالمية للشباب الإسلامي يساعد في تحقيق ذلك كله، إذ أقمنا من خلال الندوة أكبر المعسكرات والمؤتمرات في السعودية وتولى الكثير ممن تربى في هذه المعسكرات العديد من المناصب والوزارات». وأشار إلى أن الحكومة تنبهت بعد ذلك لتلك المنجزات، فتم البدء ب «سعودة» جميع المناصب في الندوة، وقال: «لقد قلت حينها للأمين العام للندوة الدكتور توفيق القصير أنا جئت للندوة لأنها عالمية وليست لأنها سعودية، فتركت العمل في الندوة بعد ذلك في عام 1983، وذلك كله يشير إلى مدى تغلغل الإخوان في المجتمع السعودي في تلك الحقبة. * كاتب سعودي. [email protected]