إنه فيلم نخبوي، غامض، مرتبك، إيقاعه بطيء، مُعادٍ للجمهور لأنه منفصل كلياً عن السينما المصرية، وليست له صلة بالواقع المصري أو قضاياه الاجتماعية، كما أنه إهدار للمال العام بعد أن بلغت موازنته نحو 22 مليون جنيه. اتهامات وانتقادات عنيفة تلك التي ألقيت في وجه فريق عمل فيلم «المسافر» - أول الأفلام الروائية الطويلة لمخرجه وكاتب السيناريو - أحمد ماهر - منذ عرضه فيما دورة العام الماضي لمهرجان «فينيسا» وحتى عقب عرضه الأول في مدينة الإسكندرية منتصف ايلول (سبتمبر) الماضي. اللافت أن أصحاب هذه الاتهامات لم يفتحوا المجال أمام تبادل الحوار العميق حول فنية الشريط السينمائي وأفكاره وأبعاد شخصياته. الغموض الجميل قطعاً «المسافر» فيلم نخبوي، وذهني. لكن ما العيب في أن يكون الفيلم نخبوياً؟ لماذا نُصر طوال الوقت على أن نطالب الفنان بأن يتواضع ويقدم فناً للجمهور العريض؟ لماذا لا يحدث العكس ونطالب الجمهور بأن يفكر في ما صنع المبدع من فن مُرصع بالدلالات حتى وإن اكتنفه بعض الغموض؟ أليس من حق «النخبة» أن ترى فناً يُلائم ثقافتها ومستواها الفكري؟ السبب الحقيقي الكامن، في تقديري، وراء هذا الربط المتعسف بين النجاح الجماهيري وجودة أي عمل فني هو كلمة حق أُريد بها باطل. فمصدرها الأساسي، في الأصل، هو «بعض» أصحاب شركات الإنتاج السينمائي، اللاهثين وراء تحقيق الربح السريع بل الثراء الخيالي طوال الوقت، لأن هذا الربط يصب في مصلحتهم وحدهم. ولأن من غير المعقول ولا المنطقي أنه عندما تتدخل الدولة في عملية الإنتاج السينمائي نطالبها بإنتاج أفلام شبيهة بالسينما السائدة، أفلام تجارية تحقق مردوداً آنياً لأنها متصالحة مع جمهور أصبح معظمه فاسد الذوق. عنصر أساسي من قوة وجمال فيلم «المسافر» - «من ضهر راجل» سابقاً - هو عدم الوضوح والغموض الذي يلفه، إلى جانب جماليات الصورة بتكويناتها التشكيلية اللافتة خصوصاً مع مشاهد الحلم، والخيول التي تقفز في المياه،على رغم مرجعيتها السينمائية العالمية. كذلك حركة الكاميرا بتنويعاتها البطيئة والمتعجلة أحياناً أخرى، المستندة إلى اللقطات الطويلة. وشريط الصوت الحافل بالأغاني التي لعبت دوراً مهماً، حتى وإن تحفظنا على توظيف بعضها، فإنها من دون شك ساهمت في أن يُصبح الشريط السينمائي نصاً ثرياً مفتوحاً على احتمالات وتفسيرات ودلالات شتى، قد لا يكون صانعها رمى إليها جميعاً، وقد يُشارك المتلقي ذاته في صنع أو قراءة أبعاد أخرى لم تخطر على بال المخرج. اللافت أن الفيلم رغم نخبويته يعكس بوضوح ملامح المجتمع المصري وما حدث له من تشويه وتدهور إجتماعي، وما شهده من إنحدار أخلاقي وثقافي، إلى جانب ما أصبح يُعانيه أفراد هذا الشعب من تغييب ومن تطرف وتعصب ديني برز على وجه الخصوص في الفصل الثالث والأخير من الفيلم. الفساد في كل الأزمنة على رغم كل ما سبق ينتصر الفيلم لفكرة مؤداها أن الفساد لم يختفي في أية فترة تاريخية، أنه موجود دائماً حتى وإن تغيرت أشكاله ومستوياته. ففي عام 1948، إلى جانب الفساد السياسي الأكبر، تجسد الفساد الاجتماعي في عامل البريد الذي يقوم بتوزيع التلغرافات أو يحتجزها بحسب هواه ورغباته، كما تجسد في شخصية المعلم الذي يُدير مكاناً للدعارة، ويُتاجر في المخدرات بأنواعها إلى جانب تعاونه مع المحتل. وفي عام 1973 نرى صاحب محل «الفِراشة» الذي يُقوم بإعداد سرداق العزاء يقترح، بمرونة مثيرة للاشمئزاز، تحويل واجب العزاء والمأتم إلى فرح ضخم تصدح فيه أصوات الطرب والرقص. والطبيبة الشابة في عام 2001 لا يهمها سوى الحصول على الدكتوراه حتى لو أجرت جراحة لأنف الحفيد الشاب من دون رغبته. والجد لا يشغل باله سوى التأكيد على ذكورته التي تُؤرقه محاولاً بشتى الطرق إثبات أن هذه الأسرة من نسله. وصاحب الديوك البلطجي يستغل هوس البعض بصراع الديكة ليمتص أموالهم عبر الرهان، وإذا اعترض عليه أحد لا يتورع في مهاجمته بالسيف. في كل فصل من «المسافر» تُوجد حالة من حالات الاغتصاب سواء كان المادي أو المعنوي، هناك حالة من التردي الأخلاقي واستغلال البشر، والمتاجرة بكل شيء وأي شي، في كل فصل تُوجد هزيمة عميقة، وهناك إناس لديهم قدرة على تحويل الكوارث إلى ولائم والجنائز إلى أعراس. ما يُؤخذ على «المسافر» هو مشاهد الغرافيك لأسراب الحمام التي جاءت مصطنعة نوعاً ما. ركاكة الحوار، على رغم ندرته، في جزء من الفصلين الأول والثاني. إلى جانب محاولة سيرين عبد النور تقليد سعاد حسني، ومحاولة خالد النبوي تقليد عمر الشريف لأنهما لذلك استدعيا الأصل، وقطعاً كانت المقارنة في غير مصلحتهما على الإطلاق، خصوصاً في لحظات الصمت المرتبكة التي كان من المفترض أن يأتي فيها أداؤهما مشحوناً بالتوتر الخفي والإنفعالات الداخلية المتواريه، لكنهما لم ينجحا في التعبير عما كان يجب التعبير عنه. الإيقاع ... وما أكثر اللغط والأوقاويل التي ترددت حول إيقاع الفيلم، ومطالبة البعض بالحذف منه وإعادة مونتاجه للإسراع بإيقاعه حتى يكون مناسباً للعرض التجاري. وهو أمر مثير للإستنكار لأن الإيقاع البطيء هو جزء أصيل وجوهري من البناء الفني وتكوين هذا الشريط السينمائي، فإذا كان ثلث العمل تقريباً تقع أحداثه في عام 1948 بإيقاعه ونمط حياته المميز، وإذا كانت أغاني هذا العصر جزءاً أساسياً من شريط الصوت، إذاً يُصبح من الحتمي ألا يلجأ المخرج إلى الإسراع من السلوك الشخصي لأبطال العمل وتصرفاتهم حفاظاً على التناغم بين طبيعة هذا العصر وروح العمل المتصدي له. وأياً كان عدد الدقائق المحذوفة في النسخة الجديدة، (7 أو 12)، فما يُمكن قوله هو إن الحذف، أو إعادة المونتاج، لم يُسرّع من وتيرة الأحداث ولم يُؤثّر على إيقاع الفيلم، فالإيقاع هو الإحساس بمرور الزمن وجريانه ومدى كثافته في الكادر، والذي يتجلي أيضاً في المعالجة البصرية، وفي الصوت، وفي سلوك الشخصيات وردود أفعالها. الإيقاع ينشأ أثناء التصوير، موجود في كل كادر وكل لقطة، ولا يخلقه المونتاج أبداً. الجانب الثقافي هو جزء لا يمكن إنكاره من إشكالية تلقي المشاهد الأجنبي لفيلم «المسافر»، لأنه يعتمد في جزء كبير من مضمونه وأفكاره على شريط الصوت، خصوصاً الأغاني بمدلولها الثقافي والسياسي الذي لا يستطيع إدراكه إلا من عاش في هذا البلد وعرف ظروف إذاعة هذا الموروث الغنائي. لذلك إذا عرفنا أنه بحسب استفتاء النقاد في نشرة مهرجان «فينيسيا» ال66 أن عشرة من هؤلاء النقاد شاهدوا فيلم أحمد ماهر فمنحوه التقويم التالي: واحد أعطاه ثلاث نجوم من خمس، وأربعة نجمتين، وواحد نجمتين ونصف، وأربعة نجمة واحدة... ينبغي ألاَّ نندهش لأن هؤلاء النقاد الأجانب، مع كل التقدير لهم ولتاريخهم المهني، لم تصلهم رسالة الفيلم، أو وصلتهم مُشوشة مبتورة، لسبب بسيط أنهم عجزوا عن فك كثير من شفراته. لذلك ينبغي ألاَّ يكون عدم استساغتهم له مقياساً بأي حال من الأحوال. أما الموازنة التي أثارت حفيظتهم فهي ليست ضخمة مقارنة بأفلام تكلفت أكثر من ذلك بكثير. أضف إلى ذلك أن ديكور الباخرة «أطلانطا» الضخمة في «المسافر» المكون من ثلاثة طوابق بلغت كلفته وحده مليوني جنيه واستغرق بناؤه ستة أسابيع ونصف لاسبوع، قام بتصميمه مهندس الديكور المصري أنسي أبو سيف. هذا إلى جانب أجر فنان عالمي مثل عمر الشريف، ومدير التصوير الإيطالي ماركو أونوراتو، إضافة إلى إجراء عملية المونتاج وشريط الصوت بإيطاليا. وبقي أن نذكر هنا أن «المسافر» هو باكورة إنتاج الدولة بعد غيابها عن الإنتاج السينمائي لنحو أربعين عاماً. أنتجته وزارة الثقافة المصرية وصندوق التنمية الثقافية كما حصل سيناريو الفيلم على منحة دعم السينما بعد أن تحمس له وزير الثقافة المصري فاروق حسني، بتشجيع من تقارير نقدية حماسية كتبها علي أبو شادي، وسمير فريد، وكمال رمزي، ورؤوف توفيق، ويحيي عزمي.