يرى مراقبون كثر أن تحديد وقت انسحاب الولاياتالمتحدة من العراق خطوة تفتقر الى الحكمة، وأن مثل هذا القرار يتخذ بناء على الوضع الميداني، وليس التزاماً بموعد سابق. وهم يدعون الى بقاء قسم من قوات الولاياتالمتحدة في هذا البلد طوال العقود المقبلة. وحريّ بواشنطن تقويم أثر استراتيجية الانسحاب من العراق قياساً على تجاربها السابقة في فيتنام وكمبوديا في السبعينات، ولبنان في الثمانينات، والصومال في التسعينات. فأحجار ال «دومينو» لم تتهاوَ اثر انسحاب واشنطن من جنوب شرقي آسيا. ولم يملأ الاتحاد السوفياتي الفراغ في هذه المنطقة ولا في لبنان. ولم تتأثر واشنطن بانهيار الدولة الصومالية وفشلها. وفي السوابق هذه كلها، انشغل خصوم واشنطن بإحكام قبضتهم على هذه البلدان، وتورطوا في نزاعات مع دول الجوار. وهذه الانسحابات الاميركية كانت هدية مسمومة الى الفيتناميين والكمبوديين واللبنانيين والصوماليين. ولكن واشنطن تخففت من أعباء البقاء في هذه الدول. والحق أن مشروع بناء الدولة نجح في اليابان وألمانيا، في ختام الحرب العالمية الثانية. ولكن وضع العراق مختلف عن هذين البلدين. فهو أقرب الى فيتنام وكمبوديا ولبنان والصومال منه الى اليابان وألمانيا. وفي الستينات، حملت أشباح ميونيخ ومؤتمر يالطا ووقوع بكين في قبضة ماو تسي تونغ، الولاياتالمتحدة على الانزلاق الى فخ فيتنام وأدغاله. ورأى الرئيس ليندون جونسون أن الانسحاب من فيتنام قد يطلق شرارة حرب عالمية ثالثة. وفي 1965، أرسل 50 ألف جندي إضافي الى فيتنام. وقبل بدء ولاية الرئيس ريتشارد نيكسون، فقد 31 ألف جندي أميركي حياتهم في هذا البلد. وبادر نيكسون الى سحب القوات الاميركية تدريجاً من فيتنام، وامتحن صدقية نظرية أحجار ال «دومينو»، وتبين أنها غير مصيبة. وسعى نيكسون الى نشر قوات فيتنامية جنوبية محل القوات الأميركية. وأعلنت هانوي أنها تعارض الخطة الاميركية، ولكنها التزمت خطواتها. وعبّد اتفاق السلام المبرم بباريس، في 1973، الطريق الى انسحاب الولاياتالمتحدة من فيتنام، وهزيمة فيتنام الجنوبية أمام جيش فيتنام الشمالية، في 1975. ووقعت كمبوديا ضحية طي الحرب الاميركية في فيتنام الجنوبية. فحكومة بنوم بنه عجزت عن قطع الإمدادات الى هانوي. واندلعت المعارك داخل حدود كمبوديا الشمالية الشرقية. وفي 1969، شنّت الولاياتالمتحدة غارات على قوات فيتنام الشمالية للحؤول دون استخدامها أراضي كمبوديا. وأقال المجلس الوطني الكمبودي الأمير نورودوم سيهانوك في 1970، وعيّن رئيس موال لأميركا، لون نول، وهو جنرال ورئيس وزراء سابق. ولكن واشنطن لم تنشر عدداً كبيراً من القوات في كمبوديا، وأرسلت الأسلحة الروسية الصنع المصادرة الى هذا البلد. ورفض الكونغرس الاميركي ضمان دعم جوي للقوات الكمبودية، فانهار النظام الكمبودي المعادي للشيوعية. وفي 1975، أمسك بول بوت والخمير الحمر بمقاليد السلطة في بنوم بنه، وارتكب نظامه مجازر رهيبة أرخت بظلال قاتمة على العقود الأخيرة من القرن العشرين. ولكن، على خلاف رأي القادة الأميركيين، لم يفض وقوع كمبوديا وفيتنام ولاوس في شباك الشيوعية الى تداعي الموازين الإقليمية كلها. فالانسحاب الاميركي قوض لحمة التضامن بين الخصوم، وفك عراها. وتداعت الروابط «الأخوية» بين الدول الشيوعية، قبل إجلاء آخر جندي اميركي عن فيتنام، في 1975. وشن نظام الخمير الحمر حرباً على جزيرتين فيتناميتين زاعماً سيادته التاريخية عليها. فبدأت حرب الهند الصينية الثالثة. وفي 1979، حاولت فيتنام إسقاط نظام الخمير الحمر في بنوم بنه. فدافعت الصين عن حليفها، وهاجمت فيتنام. وإثر فشل أحلامها التوسعية، طوت الدول هذه تاريخها القريب القاتم، وانصرفت الى بناء قوتها الاقتصادية. وثمة أوجه شبه كثيرة بين وضع القوات الاميركية اليوم في العراق وبين وضعها في لبنان الثمانينات. فهذا البلد، شأن العراق، تنازعه العنف الطائفي. ولكن عدد الأطراف المتورطين، يومها، في لبنان يفوق نظيرهم في العراق. ففي لبنان، انتشرت قوات من الحرس الجمهوري الإيراني، والقوات السورية، والقوات الإسرائيلية. واثر قصف الجيش الإسرائيلي بيروت للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، سعت إدارة ريغان الى وقف دوامة العنف في هذا البلد. وأرسلت قوة حفظ سلام دولية متعددة الجنسيات الى بيروت. وبعد مغادرة منظمة التحرير الفلسطينية العاصمة اللبنانية، انسحبت القوات الاميركية. ولكن السلام الطري العود لم يدم. وبادر أنصار لسورية الى اغتيال الرئيس المنتخب، بشير الجميل. فاجتاحت القوات الإسرائيلية بيروت، ونقلت مجموعة من أنصار الجميل الى مخيم صبرا وشاتيلا لتصفية منظمة التحرير. واثر انتشار أنباء عن مجزرة المخيم، أرسل ريغان، ودول حليفة، قوات عسكرية الى بيروت لمساعدة الحكومة اللبنانية على إرساء الأمن. فوجدت واشنطن نفسها في مرمى الدروز والسوريين وقوات «الحرس الثوري الإيراني». وعلى وقع هجمات استهدفت قوات المارينز في لبنان، تراجع تأييد مبدأ خسارة الاميركيين أرواحهم في سبيل إنقاذ لبنان. وقبل ريغان على مضض الانسحاب من هناك. وخلصت إدارته الى أن تخفيف خسائرها أفضل من البقاء. ولم تنته فصول الحرب في البلد هذا قبل نهاية الثمانينات، ولم يرسَ، الى اليوم، الاستقرار السياسي في لبنان. وفي أيار (مايو) 1993، نجحت القوات الاميركية والقوات الدولية في تأمين الغذاء للصوماليين، وانتشالهم من براثن المجاعة. فسلمت الولاياتالمتحدة مسؤولية بناء الأمة الى قوات حفظ السلام الأممية الدولية، وانسحبت. وبعد أيام، عمت الفوضى الصومال، وقتل 24 جندياً باكستانياً من قوات حفظ السلام بمقديشو. فقرر بيل كلينتون القبض على المسؤول عن الفوضى وعمليات القتل وهو الزعيم القبلي الصومالي، محمد فرح عيديد. ومنيت مهمة القوات الاميركية بالفشل، وأسقطت طائرتان مروحيتان من طراز «بلاك هوك» بالصومال، وقضى 18 جندياً أميركياً كانوا على متنهما. فسحبت واشنطن قواتها. وبعد هجمات 9/11 لم يعد في وسع الولاياتالمتحدة تجاهل مخاطر انتخاب «القاعدة» الصومال والقرن الأفريقي ملاذاً آمناً، واستقرارها فيه. فساندت واشنطن، في 2006، حملة اثيوبية عسكرية على الصومال لإطاحة «اتحاد المحاكم الشرعية». ولا شك في أن انسحاب الولاياتالمتحدة من هذه الدول لم يحمل السلام الى سكانها. فالنزاعات الأهلية تفاقمت، وتدخلت دول الجوار فيها. وتبين أن سياسة التدخل عموماً، على شاكلة تدخل كمبوديا والصين في فيتنام، وتدخل سورية في لبنان، وأثيوبيا في الصومال، غير قابلة للدوام. فاضطرت هذه الدول الى العدول عن التدخل العسكري، والانسحاب. ولن يغرد العراق خارج سرب التجربة اللبنانية في تسوية النزاعات الأهلية، ولن يحذو حذو فيتنام في إرساء الاستقرار. وأغلب الظن أن تتأجج النزاعات الطائفية بالعراق، اثر الانسحاب الاميركي. ولكن العراقيين وحدهم مخولون تقرير مصير بلدهم. * كاتب في الشؤون الخارجية ومستشار سابق في مكتب وزارة الخارجية للشؤون العسكرية الخارجية بين 1989-1990، عن «فورين أفيرز» الاميركية، 3-4/2009، إعداد منال نحاس