أتمنى أن أنجح مرة في عقد اتفاق تصالحي بين عقلي وقلبي. فهما دائماً ناقر ونقير وعلى خلاف مقيم كزوجين عجوزين لا يطيقان بعضهما بعضاً وتزوجا على غلب! قلبي أبيض وعلى نياته يُصدّق كل ما يقال خصوصاً من جميلات «الجزيرة» و «العربية» المتمكيجات اللائي يقدمن لنا وجبة الأخبار طازجة من غرف النوم خمس نجوم في أترف الفضائيات، ويأمل بتحقق كل ما يقرأ في مطبوعات «الآن الآن وليس غداً» عن بشائر التصالح بين ميسرة أحمد قريع، وميمنة أبو مرزوق والقلب المسكين الممزق من الشمال إلى اليمين يتمنى أن يرى قبلات حقيقية وأحضاناً صادقة بين المجتمعين. في اللحظة ذاتها يسخر عقلي من قلبي دائماً، ويقهقه على هبله المتوطن، ويرى أن أمور الفهلوة الخطابية والأفلام الهندية السياسية ما عادت تنطلي عليه وما الأحضان والقبلات والدموع أمام الكاميرات إلا تمثيل في تمثيل. طيب والأمر كذلك. لماذا إذاً السعي للمصالحة القاهرية بين مشعل وعباس وهما لا يزالان وبحسب آخر التصريحات، كما الزير وجساس؟! الجواب فرضه التقاء المصالح المتناقضة وحسابات المستقبل في نفق التصالح، بمعنى انه ليس أمام الطرفين للخروج من أزمتيهما إلا مد اليد للأخرى وتشكيل حكومة وحدة وطنية لا حباً في الوحدة الوطنية ذاتها وإنما لأنها الوسيلة الوحيدة لمواجهة أعباء المرحلة المقبلة. مع كل الاحترام لتمكينات «حماس» وكراماتها، ولعلاقات سلطة عباس وسياساتها. والصورة بوضوح كما يراها أي غزاوي بسيط، هي كما يأتي: إننا لا نزال تحت الحصار على رغم كل إبداعات الرباط للخروج منه على مدى20 شهراً، وعلى رغم احترامنا للقناعات القائلة عن انتصار مغمّس بدم 1300 شهيد! إلا أن غزة المدمرة التي تصيّف في عز الشتاء ورجعت بمأساتها العمرانية 40 عاماً إلى الوراء باتت في حاجة ماسة إلى اعمار، والاعمار يلزمه مال والمال من بلايين دولارات شرم الشيخ، وشرم الشيخ يتجاهل عن عمد «حماس»، ويرفع في وجهها شروطاً تعجيزية. والمال إن صدقت وعود المانحين يشترى به أسمنت، والاسمنت لا يمر إلا من تحت إبط إسرائيل، وإسرائيل و «حماس» يلعبان لعبة القط والفار والاثنتان تريدان التهدئة والخلاف بينهما على تهدئة مع شاليط أو من دونه، فاسرائيل تريد شاليط مع تهدئة من طرف واحد خالية الدسم، و «حماس» تريدها «تانغو» كاملة الدسم مع المعابر، وكذلك الخلاف على ثمن شاليط، فهو حمساوياً يعني تحرير مجموعة سجناء فلسطنيين من العيار الثقيل، وإسرائيلياً يعني تحرير أقل القليل. ولكن شاليط نفسه لا يساوي في النهاية عند إسرائيل أن تتنازل أو تغض الطرف عن الأنفاق والمعابر التي تتمسك بها كما كانت تتمسك جدتي بعصبة رأسها لتشدها بمفتاح الدار وقت يزعجها الصداع. في خلفية هذه الصورة المتشابكة يتهيأ نتانياهو وليبرمان للدخول وتسخين الاوضاع مجدداً، وسط غفوة عربية واسترخاء عالمي. لذلك توصلت قناعات حكماء «حماس» على استحياء إلى أن المصالحة الفلسطينية ولو الموقتة هي السبيل الأمثل وغير المكلف لتجاوز عقبات كثيرة، وكسب مزيد من الغزل الأوروبي بانتظار أن يتحقق لها من خلال اتصالات سرية ورسائل ودية إلى البيت الأبيض زواج عرفي من أميركا مباركاً قطرياً، غير محرج إيرانياً وسورياً، وليس بمستوى زنا علني. وكل ذلك يتيح الفرصة من أوسع الأبواب لعدم تشويه صورة الوجه الحمساوي المقاوم مع وقف التنفيذ في ظل تهدئة طويلة متوقعة في الضفة كما في غزة حتى مع كثير من الضغط لأجل قليل من الترويض الحلال. أما بالنسبة الى عباس، فإن أماني قد تبخرت بأن تتفكك «حماس» بعوامل التعرية أو بسقوطها في وحل الرصاص المنهمر ثلاثي الأبعاد، ..عدا خيبة الأمل الراكبة جمل من ماراثون التفاوض مع ليفني وأولمرت. بالتالي فإن ضعفاً وإنحطاطاً في المعنويات أصابا «العباسيين» بلا شك ولولا وقوف القاهرة بقوة مع شرعية عباس لجرى ما جرى. عدا التخوّف الطبيعي من أن تسرق الضرة الناشزة بليل الانتباه من ضرتها العاجزة. وكان لا بد للتخفيف من ذلك أن تستعيد رام الله توازنها وتكسب نظرياً جولة اعمار غزة بينما لم يلق المانحون بالاً إلى احتجاجات «برهوم» عن تسيس إبليس. عباس ضمن بلايين الاعمار، و «حماس» تسعى للتعادل بضمان نجاحها في صفقة شاليط مع تهدئة مرضية. ومن المضحك أن عباس و «حماس» ليس لديهما حتى الآن أي ضمانات عالمية بعدم تكرار تدمير غزة مرة أخرى، بعد اعمارها في ما لو صدق المانحون. لذا، اقتضت مصالح الطرفين أن يتجها إلى القاهرة بعد مسلسل ممل من المماحكة من باب التكتكة والمناورة والمحاصصة التي بات يجيدها كل طرف كلعبة مصارعة رومانية. جماعة رام الله كما جماعة دمشق. من يتأمل تصريحات الناطقين باسم الزير أو جساس، يرى أن البسوس لا تزال تجلس القرفصاء، وتطل بوجهها القبيح مؤكدة أن لقاء تصالح المصالح من الهشاشة بمكان وبالإمكان بسهولة هدمه لأنه بالدرجة الأولى لم يأت من باب القناعة بأننا كفلسطينيين نستحق بعد قحط اسود من شؤم الفصائل، وحدة وطنية صادقة تليق بجراحاتنا. ولو أن الطرفين أرادا فعلاً مصالحة وطنية حقيقية لباشرا فوراً إغلاق الأفواه الكبيرة التي لا تجيد إلا إثارة الخواطر وتعزز الانقسام. هناك فعلاً في المعسكرين الفلسطينيين من يريد أن نضيع إلى الأبد في ثقب التشرذم والتراشق من أجل عيون هذا الوزير أو ذاك الأمير. هذا عدا العقبات النفسية الكثيرة والارادات الخارجية التي توجج التباين الكبير بين واقعية الرئاسة وتجليات الخلافة. نعم أني في قمة التشاؤل وأكاد أتمزق بين قلب يود أن يصدق كل ما يقال. وعقل يشكك دائماً ويسخر ممن يبيعون «الميّة في حارة السقايين».