كان طبيعياً أن «يحضر» نصر حامد أبو زيد الإنسان يوم تكريمه ويتوارى إلى حد ما المفكر، على الأقل في تحاشي الاشتباك مع أفكاره الإشكالية، وهو الأمر الذي سيطرح حتماً في مناسبات لاحقة لتذكر صاحب «التفكير في زمن التكفير». فالمناسبة التي احتضنها المسرح الصغير في دار أوبرا القاهرة أخيراً جاءت بعد نحو ثلاثة أشهر على رحيل أبو زيد ونظمها عدد من أصدقائه وتلاميذه وزوجته الدكتورة ابتهال يونس بغرض تكريمه، وليس تأبينه، وربما من زاوية ما الاعتذار منه وردّ اعتباره، بعدما قضى أزهى سنوات عطائه الفكري والأكاديمي منفياً عن وطنه وجامعته بل وممنوعاً من دخول بعض البلدان العربية بسبب اجتهاده في أمور يصر تيار نافذ على غلق باب الاجتهاد فيها. من هنا جاء العنوان الذي وضعته اللجنة المنظمة كالآتي: «يوم الدفاع عن الحرية الفكرية... يوم تكريم نصر حامد أبو زيد»، أما المحتوى فاستوعب كذلك حق الاختلاف مع ثمار تلك الحرية بحسب ما عبرت عنه أستاذة الدراسات الإسلامية في جامعة الأزهر آمنة نصير التي رأت أن الاختلاف ينبع أساساً من «إرادة إلهية»، متمنية أن يجد أبو زيد عند ربه ما افتقده في دنيانا من أمن وسكينة! كلمات بعض المشاركين في أمسية دار أوبرا القاهرة، التي أدارها أستاذ التراث الشعبي أحمد مرسي، غلبت عليها العاطفة، وإحداها لم يستطع صاحبها (الناشر حسن ياغي) إتمامها بعدما غلبته الدموع، فكادت المناسبة تقترب مما تحاشته اللجنة المنظمة وهو الرثاء أو التأبين. انتبه مدير المركز القومي المصري للترجمة جابر عصفور إلى ذلك، فتحاشى الكلام عن الصداقة الوطيدة التي جمعته بنصر حامد أبو زيد، قائلاً : «لن أتحدث عن نصر حتى لا أفعل مثلما فعل ياغي». الكلمات المرتجلة والمكتوبة تخللتها مقتطفات من محاضرة مسجلة صوتاً وصورة كان أبو زيد ألقاها عام 2008 في مناسبة نظمتها مؤسسة «المورد الثقافي» تحت عنوان «الفن وخطاب التحريم». في البداية تحدث مرسي بالنيابة عن اللجنة المنظمة واصفاً المناسبة بأنها «يوم للتعبير عن موقف المثقفين الداعي إلى مواجهة الأفكار بالأفكار وليس بمنطق المحاكمة أو الاستبعاد أو القتل. يوم لإعلاء شأن العقل وتأكيد قيمة الحرية»، فيما تمنت ابتهال يونس إفساح الساحة الفكرية لمناقشة أفكار أبو زيد ومواصلة ما توقف عنده، ونوه حسن حنفي بسعي الراحل إلى تأسيس معهد للدراسات القرآنية، ورأى برهان غليون في المناسبة فرصة للدفاع «عن حقه وحقنا في أن نعبر عما نفكر فيه حقاً، وتأكيد أن لكل مجتهد الحق في أن يخطئ، وتوقف إبراهيم فتحي عند إيمان نصر حامد أبو زيد بأن القرآن الكريم «دعوة للناس بأن ينعموا بمد أجل الحوار مع الوحي». أما علي حرب فأشار إلى أنه طالما اختلف مع أطروحات أبو زيد وفوجئ عندما التقاه بأنه «رجل ودود واسع العقل، له قلب أشبه بقلب طفل»، وبأنه «كان مؤمناً أكثر من حماة الإيمان أنفسهم». وإذا كان علي حرب خلص في كلمته إلى أن نصر حامد أبو زيد «فشل مثلما فشل معظم الحداثيين»، فإن الأمين العام للمجلس الأعلى المصري للثقافة عماد أبو غازي ذهب إلى أن المعاني التي عاش صاحب «نقد الخطاب الديني» من أجلها «ستبقى ما دمنا ندافع عنها»، مشدداً على أن حرية الرأي هي قيمة تتقدم بها الأمم. وأعلن أبو غازي أن المجلس الأعلى المصري للثقافة يعد حالياً للقاء سيعقد العام المقبل «لنتدارس خلاله أفكاره ونعيده حياً بيننا». ورأى طالب المولى أن منع نصر حامد أبو زيد من زيارة الكويت العام الماضي هو عمل يستحق الإدانة، وقال: «نفتخر بما قدمه، فشجاعته جددت في الثقافة عنوانها ومعانيها». وكانت اللجنة المنظمة لأمسية دار الأوبرا المصرية وجهت دعوة عامة لحضورها في بيان اعتبر ذلك اليوم هو «يوم للتعبير عن موقفنا الداعي لمواجهة الأفكار بمنطق المحاججة وليس بمنطق المحاكمة والقتل، والإعلان عن تبني قيم العلم والديموقراطية والعلمانية وحرية الفكر والتعدد الديني والعرقي كسبيل لبناء مجتمع تضعف فيه التمايزات لصالح القانون الواحد الذي يستمد قوته من المساواة بين البشر في الحقوق والواجبات»، وانتهت إلى اعتبار ذلك اليوم «ليس يوماً لتأبين المفكر الراحل نصر أبو زيد، وإنما هو يوم للتضامن وإعلان تبني القيم التي تبناها ودافع عنها». ووصف البيان نصر أبو زيد ب «الرمز المدافع عن العلم والمعرفة ضد الزيف والجهل والقمع وهو من دافع عن الفقراء والمهمشين والبسطاء ضد الفحش والتسلط والخبث، الرافض للخضوع لمنطق كم الأفواه والتهديد، والمصر على حرية الكتابة والحق في الاختلاف». واقترحت اللجنة المنظمة للمناسبة تبني كلمة الناقد فيصل دراج وجاء فيها: «لم يشأ نصر حامد أبو زيد أن يأخذ بعادات الفكر الاتباعي الذي ينصاع إلى القديم ويعيد إنتاجه بلا اختلاف يقلق الأسئلة القديمة ويطرح جديداً مفيداً... أقام بحثه الذي لم يكتمل على مبدأ التعدد الذي لا يرتاح إلى اليقين مؤكداً أن المعرفة حوار وأن الركون إلى الأحادية والتجانس اقتراب من الموت... اختلف مع حراس الركود وأكثر مع تقليد يصالح بين الحقيقة والمنفعة السلطوية. لم يعرف المساومة ولم يقبل التلفيق النظري الذي يرضي المجتمع ولا يأتي بجديد. هو حلقة مضيئة في سلسلة الفكر العربي الحديث». ولم يتسع الوقت أمام عدد من الراغبين في التحدث عن نصر حامد أبو زيد وفي مقدمهم كريم مروة ومصطفى حجازي وسعاد قوادري (زوجة الكاتب الراحل عبدالرحمن منيف) ودلال قنديل والقاضية المصرية تهاني الجبالي. وكان نصر حامد أبو زيد توفي في القاهرة في 5 تموز (يوليو) الماضي بعد حياة حافلة بالنشاط الفكري والجدل حول دراساته المعمقة في الفكر الإسلامي والديني.