أعرف أحد القيادة السياسيين في بلادنا يصرّ منذ خمسين سنة ونيّف على فرضية أن أميركا هي أصل الشرّ في العالم بما في ذلك نضوب العين القريبة وتراجع محصول العنب في هذا الموسم أو ذاك! وهذا يكفي - من ناحيته طبعاً - ليتربع على مرتفع منّا يعلّمنا كيف أن كل موقف سياسي واجتماعي وأدبي وأخلاقي، مهما يكن شأنه ينبغي أن ينطلق من فرضيته الآنفة الذكر. وهو، ونحن معه، على هذه الحال منذ لا نقتنع بما يقول ولا هو يُقنعنا أو يملّ هو من محاولاته. هذه ليست صورة كاريكاتورية أو خيالية وإن بدت، بل نموذج قائم من «مثقفين» حقبة زهوّ الشيوعية يصرّون على أنهم «اليسار» في أبهى تجلياته. وقد يستعينون باقتباس مُفترض مقتطع من ماركس أو أنغلز أو لينين لإضفاء بُعد نظري على ما يزعمون. يبدو بالنسبة إليهم، أن لا الحرب الباردة انتهت ولا العولمة بدأت ولا البروليتاريا تقلّصت إلى نِسب لم يتصورها الثلاثة المقتبسون. «يسار» محدود في نقطة واحدة وحيدة وهي أن أميركا أصل كل قهر وظلم وعنف وطغيان، وأن كل موقف ينبغي أن يبدأ وينتهي بها. لا شيء في الوجود غير هذه الأميركا. فتراهم يحفظون أشعار أحمد فؤاد نجم عنها ويشيرون إلى ما كتبه نعوم تشومسكي عن إمبرياليتها. فما كتبوا إلا وكانت في حبرهم وأوراقهم. وما اعتلوا منبراً إلا وكانت على ألسنتهم موضعاً للذم والقدح حتى لو كانت الندوة في شأن الطيور المهاجرة. أميركا وحيدة على مهدافهم بإدارتها وسياساتها وتاريخها وجرائمها. فهي الشهادة أنهم «يسار» بأربعة وعشرين قيراط. تسألهم عن انشقاق الصف الفلسطيني فيلعنونها. تسألهم عن استبداد نجاد وتزوير الانتخابات التشريعية فيقولون لك «هم الأميركان»! وتسألهم عن آلاف السجناء السياسيين في البلدان العسكرية ونظام المخابرات فيها فيقصّون لك حكايا ال «سي أي إيه». تسأل عن «مقاومة» تحصد العراقيين أنفسهم والصوماليين في قبورهم والأفغان في مدارسهم واللبنانيين في طرقاتهم، فيطلقون أحاديث المؤامرة والدسائس الأميركية. وقد ظنوا أنهم بهذا إنما يحفظون لأنفسهم منزلة «اليسار» بامتياز! لكنهم وفي الوقت نفسه، يستبدون إذا قادوا حزباً أو حركة وتربعوا على قمة مركز قوة مهما يكن وضيعاً، ولم يعترفوا بالحريات والحقوق إلا إذا كانت أميركا إياها مُطالبة بِها. فإذا اختلفت معهم في جزئية ألقوا عليك الحرمان، وإذا واجهتهم بأسئلتك حيال مواقفهم أعلنوا عليك الحرب، وإذا جرؤت واستأنفت على «يساريتهم» صكوا بياناً يعلنون فيه خيانتك أو خروجك عن طورك! «يسار» تقلّص اجتهاده العقلي إلى حدود الرأسمالية الأميركية وانحشر هناك، أو بقي في تلك الأنحاء «يبرعط» بينما العالم تجاوز ذاته وانتقل إلى نواح جديدة تتطلب من أي يسار الاجتهاد والتطوّر للحاق بسيرورة العولمة وتحولات ما بعد الكولونيالية وعجائب «الهويتي» وما بعد القومي والثقافي والاقتصادي وتفانين الافتراضي والمحلوي ومفاعيل الإرهاب وسقوط دولة العقد الاجتماعي... وما إلى ذلك من تحولات قلبت تلك الحقائق واليقينيات التي تيسرت لهم وللعالم وأدرجتها ضمن الأرشيفات والكنوز الوطنية والإنسانية. وعلى مقاسات اجتهاده العقلي تفصّلت منظومته الأخلاقية. يسار يقدّس القوة إذا ما صبت في هواه ويبغضها إذا ما وقعت عليه كأن نظرية ديكتاتورية البروليتاريا لا تزال تجري في العروق. يسار يدين بالعنف ويفهمه ويقبله عنصراً بنيوياً في السياسة إذا كانت أميركا هدفاً له. فما تسمع صوتهم ضد الإرهاب في العراق ولا في الصومال ولا في لبنان لأن أميركا هدف من أهدافه. وما نسمعهم يتحدثون عن قمع للحريات في إيران أو سورية أو غيرهما لأن الأنظمة في هذه المواقع تدّعي المواجهة مع أميركا أو هي في صدام حقيقي معها. «يسار» يُؤجّل كل شيء لأن المعركة مع أميركا هي الأساس ولا يجوز التلهّي عنها بشؤون صغيرة مثل الحريات السياسية أو الشخصية أو مسائل التعددية والاختلاف وقضايا المرأة والجندر والمثليين والمثليات جنسياً! «يسار» عربي معطوب من الجذر لا يزال يعتقد أن هناك مركزاً واحداً للظلم والشر - كما اعتقد بوش بوجود محور كهذا! - وأن بناء العالم وإصلاحه أو بناء مجتمع أو دولة أو ضمان الحريات والكرامة الإنسانية في أصقاع الدنيا أو مجرّد إفساح المجال لرفيق معارض، يتطلب أولاً إزالة هذا المركز «الشرّير» من الوجود. يسار دوغمائي قضى عمره في الإتيان بردود الأفعال على المركز الأميركي ويتفنن في توصيف سياساته ولم يفطن إلى احتياجات الناس اليومية التي طالبته بحلول معقولة عوضاً عن يوتوبيا متخيّلة، عن أجر معقول وبيت معقول وتعليم معقول وإمكانية معقولة للبوح والحديث الحرّ. فانقلب هذا «اليسار» على «الجماهير» متهماً إياها بأنها تعاني من «الوعي الزائف»، ولا بدّ لها في نهاية المطاف من الإدراك واكتساب «وعي طبقي» هو البوصلة إلى عالم ينتفي فيه القهر والظلم. «يسار» له جيش من محترفي تسجيل الوعود بكذا... بينما العالم قد تحرّك بفعل الجدلية التاريخية والتناقضات التي أعجبت فيها أجيال هذا «اليسار» إلى أمكنة تستدعي إنتاج لغة جديدة للإدراك، لغة لم تتيسّر لهذا «اليسار»!