في كتابه «البيان في روائع القرآن»، استلهم تمام حسان ظاهرة الأسلوب العدولي في القرآن الكريم عن قواعد النحاة، وتوسَّع فيها، وأولاها عنايته بمزيد الاهتمام والدراسة اللغوية، إضافة إلى ظاهرة عود الضمير، لافتاً إلى ضرورة تناولهما أسلوبياً، ونحوياً، وبلاغياً. بدايةً، لاحظ حسان خروج الكثير من الآيات القرآنية عن قواعد النحاة، وتنظيرهم، فقال عن ظاهرة الضمير ومرجعه، بعدما قدَّم أمثلةً لعدول القرآن عن هذه الظاهرة، ومخالفتها: «ومعنى ما سبق من الشواهد، أن الاعتبارات الدلالية تحول دون ارتباط عود الضمير بالضرورة بقاعدة نحوية معينة، أي أن قول النحاة أن الضمير يعود إلى أقرب مذكور لا ينبغي أن يُقبل قبولاً مطلقاً، إذ قد يتطلب المعنى عودة إلى أبعد مذكور، كما في قوله تعالى: (ويقولون طاعةٌ، فإذا برزوا من عندك بيَّتَ طائفةٌ منهم غيرَ الذي تقولُ) (النساء:81). إذ إن الفعل (تقول) هو ضمير مستتر تقديره (هي) يعود إلى الطائفة، أي أن الطائفة قالت: طاعة، وبيَّتتْ معصية! وليس الأمر كما قال القرطبي من أنهم (بدّلوا قول النبي صلى الله عليه وسلم في ما عهده إليهم، وأمرهم به)! لأن الآية لم تشتمل على قولٍ قاله النبي. ولو كان الأمر على ما زعمه القرطبي وغيره، لكان الضمير راجعاً إلى مَن أُضمِر له بالكاف من (عندك) أي راجعاً إلى النبي، مع أنه لم تجرِ الإشارة في الآية إلى قول قاله، بعكس ما قالوه هم، وهو إعلان الطاعة. من هنا، يكون عود الضمير إلى الطائفة هو الأولى، ويُعضِده قُرب المسافة بين الضمير ومرجعه. وفي قوله تعالى: (لقد كان في يوسفَ وإخوته آيات للسائلين، إذ قالوا لَيوسفُ وأخوه أحبُّ إلى أبينا منا، ونحن عصبةٌ، إن أبانا لفي ضلال مبين، اقتلوا يوسفَ أو اطرحوه أرضاً يخلُ لكم وجه أبيكم، وتكونوا من بعده قوماً صالحين) (يوسف: 7 - 9). يعلق عليها حسان، فيقول: «يعود الضمير في (قالوا) إلى أبعد الجماعتين المذكورتين، وهي جماعة الإخوة، لا إلى أقربهما، وهي جماعة السائلين، ويُعضِد هذا القول سبب تركيبي، وقرينة عقلية. أما السبب التركيبي، فلو جاء مقول القول (وهو كل ما جاء بعد لفظ قالوا) تالياً للإخوة مباشرة، لبعدت المسافة بين كان واسمها إلى درجة تذهب بوضوح المعنى من جهة، وبحسن السبك من جهة أخرى، ومن ثم وُضِع اسم كان وهو (آيات للسائلين) في مكانه من الآية فاصلاً بين الضمير في (قالوا) وبين مرجعه، وهو الإخوة. وأما القرينة العقلية التي تدل على أن الضمير للإخوة دون السائلين، فتتمثل في أمرين، أحدهما: أن السائلين كانوا معاصرين للنبي، فلا يتبادر إلى الذهن أنهم أبناء لأبي يوسف عليه السلام وأخيه. والثاني: أن الإخوة أضيفوا إلى ضمير يوسف في لفظ (إخوته) كما أضيف الأب إلى ضميرهم هم في قولهم: (أبينا) فاجتماع الإضافتين دليل على أن الإخوة هم مرجع الضمير في (قالوا)! وهو ما خالف فيه حسان نحو النحاة، اعتماداً على قرآن اللغة، وقواعده الأعلى أداء، وبلاغة، ولغة، وسياقا، ودلالة، من نحو النحاة. وفي قوله تعالى: (وإذْ قال موسى لقومه، إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرةً، قالوا أتتخذنا هزواً، قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين) (البقرة: 67). يقول حسان: «إذ يستمر بنو إسرائيل في مناكفة موسى، بتكرار الأسئلة إليه عن البقرة المطلوبة حتى نهاية الآية الرقم (71). عندئذ يأتي قوله تعالى: (وإذ قتلتم نفساً، فادارأتم فيها، والله مخرِج ما كنتم تكتمون، فقلنا اضربوه ببعضها) (البقرة:72 - 73). فالضمير في (بعضها) لا يعود إلى أقرب مذكورٍ، وهو (نفساً)، وإنما يعود من الآية (73) إلى البقرة التي ذُكِرتْ في الآية (67). ولا شك في أن المسافة بين الضمير في (بعضها) ومرجعه من البعد، بحيث يتطلب إرجاع الضمير قدراً من شحذ الذاكرة، بخاصة لأن القتيل كان (نفساً) بلفظ مفرد يتفق إفراداً وتأنيثاً مع الضمير في (بعضها) غير أن الفعل (اضربوه) أضفى على النفس المقتولة من التذكير، ما يحول بينها، وبين أن تكون مرجعاً في (بعضها). وبذا يعود الضمير إلى البقرة، ويكون المعنى: فقلنا اضربوا القتيل ببعض البقرة، وهو ذيلها. وهكذا يعود عند وجود القرينة إلى أبعد مذكور». ظاهرة الفصل بين طرفي الإسناد ويتعرَّض حسان لظاهرة الفصل، أو المسافة بين طرفَي الإسناد في القرآن الكريم، فيقول: «الأصل في طرفي الإسناد أن يتقاربا، ولكن وجود القرينة الدالة على المعنى، يُبرّر التباعد بينهما، إما إلى درجة ضئيلة كالفصل بينهما بإحدى مفردات الجملة، أو ملحوظة كتوسط الجملة المعترضة بينهما. وفي ما يلي بعض الشواهد على بُعد المسافة بين طرفي الإسناد: قال تعالى: (فآخرانِ يقومانِ مقامهما من الذين استحق عليهمُ الأوليانِ)، (المائدة: 107). هنا وصف المبتدأ بجملةٍ باعدت بينه وبين الخبر، وسوّغت الابتداء به، وهو نكرة، ثم جاء الخبر معرفة. وتقدير المعنى: فآخران قائمان مقامهما هما الأوليان بذلك. ولما كان الابتداء بالنكرة هنا له ما يسوّغه، وهو الوصف، أصبح ارتباط الخبر بالمبتدأ مفهوماً، على رغم ورود الخبر (الأوليان) بعد الفعل (استحق)، ما يجعله يشبه أن يكون فاعلاً لهذا الفعل». وهناك نموذج آخر، لهذا الفصل الفني بين طرفي الإسناد، منه قوله تعالى: (تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين) (السجدة: 2). يقول عنها تمام حسان: «المبتدأ لفظ (تنزيل الكتاب)، والخبر (من رب العالمين)، وما بينهما جملة معترضة. ولو ارتضينا أن يكون (لا ريب فيه) هو الخبر، لكان المعنى منفياً، لأن يكون سبحانه قد ارتاب في التنزيل، والتقدير: أن تنزيل الكتاب لم يُصادف ارتياباً من الله تعالى. والمعروف أنَ نفي الدعوى يُفهَم منه إمكان وقوعها في ما سبق، وذلك بمفهوم المخالفة، ولم يدَّعِ أحد على الله سبحانه مثل ذلك». ومن نماذج الفصل بين ركني الإسناد في القرآن الكريم، قوله تعالى: (يوم يأتي بعض آيات ربك، لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبلُ، أو كسبت في إيمانها خيراً) (الأنعام: 158). يقول حسان: «الأصل في الفاعل أن يتصل بالفعل، والأصل في المفعول أن ينفصل عن الفعل، بحيث تكون الرتبة: (فعل + فاعل + مفعول به). من هنا، يصبح الفصل بين الفعل وفاعله أدعى إلى الانتباه من الفصل بين الفعل ومفعوله، على رغم ما بينهما من علاقة التعدية، فإذا نظرنا إلى موضع الفاعل (إيمانها) بالنسبة إلى الفعل (ينفع)، والمفعول به (نفساً) في هذه الآية الكريمة، وجدناه مغايراً للرتبة التي أشرنا إليها منذ قليل. فإذا تصورنا تقديم الفاعل، بحيث يكون في رتبته الأصلية متقدماً على المفعول واجهنا عود الضمير إلى متأخر لفظاً ورتبة (لا ينفع إيمانها نفساً)! وإذا تصورنا تأخيره إلى آخر الجملة (لا ينفع نفساً لم تكن آمنت من قبل، أو كسبت في إيمانها خيراً إيمانها) واجهنا ضعف العلاقة بين الفعل والفاعل، لطول المسافة بينهما، ما يؤدي إلى سوء السبك»! العدول عن الأصل وهناك، قوله تعالى: «كُتِبَ عليكم إذا حضر أحدَكم الموتُ، إن ترك خيراً الوصية للوالدَين والأقربين» (البقرة: 180). يقول تمام حسان معلقاً على ذلك: «بعدت المسافة بين الفعل (كُتِبَ) ونائب فاعله بمقدار جملتين شرطيتين، يُفهَم جوابهما من خلال ما تقدم عليهما من قوله (كُتِبَ عليكم) والذي يسَّر وقوع جملتَي الشرط في موقعهما من الآية، أنهما تمثلان قيداً على مفهوم (كُتِبَ عليكم)، أي على جواب الوصية. معروف أن القيد في سياق النص جزءٌ لا يتجزأ من هذا النص، لذا كان بعد المسافة بين الفعل ونائب فاعله أمراً مقبولاً». يقول تمام حسان: «وفي الأسلوب القرآني ما لا يُحصَى من هذا العدول عن الأصل، فمن ذلك قوله تعالى: «ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم، إنه كان حوباً كبيراً» (النساء: 2). ففعل الأكل متعد بنفسه إلى مفعوله الواحد، ولا يحتاج بعد ذلك أن يتعلق به (إلى) ولو جاز له أن يتعلق به الحرف، لكان (من) نحو «ولا تأكلوا ممّا لم يُذكَر اسم الله عليه» (الأنعام: 121). والمقصود بالنهي عن الأكل في آية النساء، النهي عن (الضم) والمعروف أن الفعل (ضمَ) ينصب أحد المضمومين على المفعولية، ويتعدى إلى المضموم الآخر بواسطة (إلى) ففي استعمال فعل الأكل في الآية تضمين هذا الفعل معنى فعل الضم، أي «ولا تضموا أموالهم إلى أموالكم»، فوقع فعل الأكل في البيئة اللفظية لفعل الضم، وأدّى معناه، وهذا هو المقصود بالتضمين، الذي هو صورة من صور النقل الأسلوبي، واستُعمِلَ الأكل، لِما فيه من الشراهة، بعكس الضم». وضرب حسان أمثلة قرآنية كثيرة جداً لظاهرة الأسلوب العدولي في القرآن المجيد عن نحو النحاة، فمن ذلك، قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم غيرَ الحق» (المائدة: 77). ويعلق عليها حسان، فيقول: «الفعل غلا يغلو، فعل لازم، ولكنه في هذه الآية نصبَ مفعولاً به (غيرَ الحق)، إذ ضُمِّنَ معنى (لا تزيدوا)، أو (لا تتقولوا) فحلَّ في البيئة اللفظية المناسبة لذلك».