لدى سؤاله عن «البراعة المستجدة» للأجهزة الامنية اللبنانية في كشف شبكات التجسس لمصلحة اسرائيل، يقول مسؤول امني رفيع ل «الحياة» ممازحاً: «لسنا ابطالاً، لكن عددهم الكبير ساهم بكشفهم». ويضيف بجدية: ««ضعف مؤسسات الدولة يسهل العمالة لمصلحة إسرائيل وغيرها. اما قوة هذه المؤسسات الطالعة من قرار سياسي متماسك وقدرتها على حماية المواطنين وإمساكها بالأمن فتكرس الانتماء للوطن». المسؤول الامني، الذي تحفظ عن ذكر اسمه، اختصر واقع تجسس لبنانيين لحساب اسرائيل وسبل العلاج، لتبقى الاسئلة الساخنة عن انحدار البعض الى درك العمالة والبيئة الحاضنة ل «طائفة العملاء»، مثار قلق للمسؤولين. وآخر ترجمة لهذا القلق كانت رفع الحكومة اللبنانية شكوى حول شبكات التجسس الاسرائيلية الى مجلس الأمن. وزير الدولة وأستاذ العلاقات الدولية عدنان السيد حسين يقول ل «الحياة» ان «رفع الشكوى الى مجلس الامن اعتمد على الفقرة السادسة من قرار مجلس الامن الرقم 1701 التي تنص على احترام سيادة لبنان واستقلاله وتمكين السلطة اللبنانية من بسط سيادتها على كامل الاراضي اللبنانية. وبالتالي فإن تجنيد اسرائيل العملاء في مختلف مؤسسات الدولة اللبنانية يكشف أسرارها الأمنية امام دولة في حال حرب مع لبنان، ما يعني تهديد الامن اللبناني والاعتداء على السيادة، اي ما يتوافق مع الفقرة السادسة من القرار 1701. كما ان تسهيل العملاء اغتيال عدد كبير من اللبنانيين وفرار بعضهم الى اسرائيل التي تحميهم من العقاب، يرتب مسؤولية دولية عليها». الا ان الوزير والنائب السابق محمد بيضون يرى ان «تقديم الشكوى عمل دعائي لا مسار قانونياً له ولا يؤدي الى فرض عقوبات على اسرائيل». وبعيداً من اسباب هذا «العمل الدعائي»، يصنف المسؤول الامني النشاط التجسسي الاسرائيلي في لبنان ب «الرخيص والبسيط»، ويرى ان «مستوى هذا التجسس يصبح اكثر كلفة وتعقيداً اذا تعلق الامر بمصر او الولاياتالمتحدة او روسيا او غيرها». ويلفت الى ان «اسرائيل لا تعتبر ان لديها حلفاء في لبنان لتحميهم اذا وقعوا. فهي تتركهم لمصيرهم ولا تفاوض لإنقاذهم». كما يلفت المسؤول الى ان «العميل لا يشغّل افراد عائلته، لكنه يستثمر المعلومات التي تصله منهم». ويشير الى ان «من غير المسموح للعميل ان يجنّد القريبين منه لئلا يُفتضح امره؛ هذا من ناحية. ومن ناحية اخرى يخاف العميل على ابنائه ولا يحاول زجهم في ما يقوم به». ويوضح ان «العملاء الصغار يسقطون بسهولة ويعترفون بسهولة ولا يسأل عنهم احد. اما الكبار فيصمدون اكثر ويصعب انتزاع المعلومات منهم ويواجهون التحقيق معهم بالصمت اطول مدة ممكنة». ويقول استاذ علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية ومدير «مؤسسة الفكر الاسلامي المعاصر» نجيب نور الدين: «في الدول القوية تحاول اجهزة الاستخبارات الوصول الى عمق السلطة لتكشف مؤسسات هذه الدول. لكن عندما يتحول المجتمع قاعدة واسعة وأساسية للمقاومة، كما هي الحال في لبنان، يتم التفتيش عن عملاء يتعاطون مع افراد هذا المجتمع في شكل يومي على اعتبار ان من يجب اختراقه هو عدو شعبي. من هنا حرصت اسرائيل على توسيع دائرة عملائها لتطاول كل المساحات التي تعتبر انها تغذي بنك معلوماتها. فالمقاومة متغلغلة في القاعدة الشعبية، ووصول الاسرائيلي الى هذه المقاومة يستوجب دخوله الى تفصيلات الازقة لجمع المعلومات عن ناسها». «الحياة» حاولت البحث عن خصوصية «البيئة الحاضنة للعمالة»، وذلك بلقاءات مع افراد عائلات بعض العملاء. عدد من هؤلاء حاول الدفاع عن تورط اقاربه والقول ببراءتهم ورد اتهامهم بالعمالة الى اسباب كيدية وتصفية حسابات تبدأ من القرية ولا تنتهي عند احد كبار السياسيين. حتى ان احدهم طلب الرأفة به وبقريبه الموقوف، مؤكداً ان التهمة ملفقة، وحاملاً على من سمّاهم «قوى الامر الواقع في الجنوب اللبناني، وفسادها وتطاولها على ارزاق الناس وكراماتهم». وتحدث عن اعتراف قريبه بالتعامل منذ اللحظة الاولى لتوقيفه، ثم روى ملابسات نقله الى اسرائيل بعد تخديره، ثم روى كيف عذب القريب خلال التحقيق معه لدى الاجهزة الامنية اللبنانية ليوقّع على بياض... وبعدما ابدى موافقته على التصريح باسمه، عاد واعتذر بناء على نصيحة قانونية. اما الذين يقرون بعمالة اقاربهم، فغالبيتهم لا تبحث عن الرأفة، بل تزايد على من يتهمهم. ابنة عميل «تمت تصفيته» بعد انقضاء فترة سجنه، تقول ل «الحياة»: «انا اتحفظ عن ذكر اسمي ليس لأنني اخاف على نفسي ولكن لأنني أخجل بوالدي. عندما اكتشفت انه يتجسس على الشباب كنت اتمنى كل دقيقة موته. وعندما قتل شعرت بالراحة». الصبية التي تعامل والدها مع الاسرائيليين منذ احتلالهم قريتها، لا تجد سبباً منطقياً لفعلته إلا «خسّته، فهو كان يريد الحصول على المال في معزل عن الاسلوب القذر ويريد ان يفرض سطوته على اهل القرية ليشعر بأهميته. والاهم انه كان انانياً لم يفكر بما فعله بنا جراء تعامله مع العدو الاسرائيلي». ويعتبر نور الدين ان «نشاط البيئة الحاضنة للعملاء سببه غياب العقاب، فلو ان المحاسبة بعد العام 2000 وتحرير الجنوب اللبناني تمت كما يجب لما كان استسهال العمالة بهذا الحجم». ويرد التساهل السابق الى تعقيدات المجتمع اللبناني. ويقول: «لو ان هذا المجتمع من نسيج واحد لما كان العقاب الشديد وصولاً الى الإعدام يمكن ان يُستغل طائفياً ومذهبياً، ولما كان ممكناً استشراء العمالة». ويوافق نور الدين على «ان الاحزاب والقوى السياسية كلها لم تبادر الى القيام بنقد ذاتي علمي لتعالج اسباب اختراق العدو الاسرائيلي بيئاتها الاجتماعية. فالنسبة خطيرة قياساً الى بلد مثل لبنان. ولحظة ضعف يقع فيها شخص ما تكفي لتنقض الاستخبارات الاسرائيلية عليه وتجنّده لحسابها». ويرى نور الدين ان قضية «العدو والصديق» غير محسومة في لبنان: «تجمع الطوائف والمرجعيات والقناعات المختلفة في لبنان يجعل النظرة الى مفهوم الانتماء الوطني متناقضة». ويشير نور الدين الى «وجود تنظيمات كانت ممسكة بقرار الطوائف المحسوبة عليها، وعملت في وقت من الاوقات مع اسرائيل علناً انطلاقاً من ان لا مانع من اللجوء الى الشيطان للتخلص من الخصم. لذا عندما يشعر طرف ما باختلال القوى لغير مصلحته يسارع الى الاستعانة بالعدو الاسرائيلي، ما أنشأ عمالة سياسية، قوامها توافق وجهات نظر فريق لبناني مع وجهة نظر العدو حول قضايا في الداخل اللبناني والاستقواء به على الداخل وفق مبدأ: عدو عدوي صديقي». ويرفض بيضون تضخيم حجم العمالة لمصلحة اسرائيل لاستغلالها وتصنيف البيئة الحاضنة وفق هذه النظريات، ويقول: «العدد الاكبر من العملاء هم من الشيعة. والامر طبيعي لأن اسرائيل تبحث عن المحيطين ب «حزب الله» وقياداته لتجنيدهم والحصول على معلومات عن الحزب. الا ان «حزب الله» وحلفاءه يصورون لبنان إما ابيض او اسود. وهذا خطأ كبير في السياسة لأن هناك مساحات لكل المواقف. وليس كل ما يخرج عن المحور السوري - الايراني موضوعاً قابلاً للتجسس. وقد اصطدم هذا المنطق مع توقيف العميد المتقاعد فايز كرم بتهمة العمالة لإسرائيل». ويضيف: «التركيز على البيئة الحاضنة في الشكل الذي يطرحه «حزب الله» يؤدي الى توتير العلاقات بين السنّة والشيعة، لأنه يضع المرجعيات السنية الرافضة سياسته وتوجهاته في خانة المتآمرين على المقاومة وبيئتها. وبالتالي يحرض قاعدته الشعبية عليهم. ومدخل تصحيح العلاقة بين السنّة والشيعة في لبنان هو التراجع عن نظرية: من ليس معنا فهو عميل ومتآمر علينا. كذلك يجب الكف عن تصوير المسيحيين ولأغراض سياسية من دون حصانة ضد العمالة». ويرفض المسؤول الامني الرسمي تحديد طائفة او مذهب للعمالة، ويشير الى «جاهزية نفسية للبعض تلتقي مع مصالح الاستخبارات». ويورد ان «احد العملاء المتميز بذكائه الحاد وبسعيه الى الثروة مهما كانت السبل، تم تجنيده باللعب على وتر الفساد المستشري في المؤسسة التي يعمل فيها ومدى الظلم اللاحق به في حين يستفيد غيره، لذا أغرقه مشغّله بالاغراءات المالية، فكان سهلاً تجنيده لقاء مبلغ سبعة آلاف دولار شهرياً». ويضيف: «بعض العملاء يحصلون على مبالغ معينة من حين الى آخر تصلهم عبر البريد الميت. ومراكز البريد الميت كثيرة في لبنان وتحديداً في المناطق الجبلية البعيدة من السكان حيث يمكن وضع مبلغ من المال او معدّات تقنية او ملف معلومات تحت شجرة او صخرة او اي مكان لا يثير الشك ولا يخطر في البال». ويلاحظ ان «نسبة لا بأس بها من صغار الجواسيس يعانون ظروفاً اسرية معقدة. اما الاعلى مرتبة فهم اولئك الذين يسافرون كثيراً بحكم اعمالهم». وينبه الى «ان الفئة الاخيرة تستخدم وسائل اتصال دولية يصعب تعقبها. الا ان خطأً واحداً يكفي لكشف امرها. وهذا الخطأ لا بد من ان يحصل». ويجد بيضون ان «البيئة الحاضنة تعود الى ان البلد محكوم بأسلحة الميليشيات والمنظمات الحزبية منذ العام 1969، بالتالي فالتنظيمات والميليشيات تصفّي حساباتها في معزل عن الدولة. وهذا الواقع سهّل العمالة لتصفية الحسابات وفق عقلية الميليشيا وأنتج شريحة العملاء. وليس صحيحاً ان المقاومة غير مخترقة. كذلك لا ننسى ان الكثير من اللبنانيين اعتقلوا في مرحلة الوجود السوري وسيطرة الامن السوري على لبنان. ولدى الاجهزة السورية ملف ضخم عن هذا الامر، اذا لاحظنا ان عدداً كبيراً من العملاء كانوا قد باشروا نشاطهم خلال تلك الفترة. ويجب ان يتم وضع هذا الملف بتصرف الأجهزة المختصة». المسؤول الامني يشير الى ان «نفوذ الاستخبارات الاسرائيلية قوي في اوروبا الغربية، وازداد قوة في اوروبا الشرقية. وهم يصطادون التجار اللبنانيين في تلك الدول بناء على بنك معلومات يتجدد باستمرار، ومعظم هؤلاء يقعون في الفخ من خلال التعامل التجاري مع يهود يخفون في بادئ الامر نياتهم او مدى ارتباطهم بالنظام الصهيوني». ويوضح ان «مراقبة الاتصالات ليست الوسيلة الوحيدة لكشف العملاء، الامور اصعب من ذلك وغالباً ما يكون الشك بالتصرفات او بالثروات غير المبررة هو الدافع لتعقب المشكوك بهم». ويقول ان «العملاء الجدد تم تجنيدهم بعد التحرير عام 2000 ومن ثم بعد العام 2006». ويضيف ان «نشاط العملاء العمودي مع مشغليهم يسهّل كشفهم بحيث اذا اخطأ احدهم لا يعرف العميل الآخر به ليسارع الى حمايته او تغطيته او تحذيره، فيقع في ايدينا». وأخيراً يرفض المسؤول معادلة «براعة الاجهزة في كشف شبكات التجسس مقابل عجزها عن كشف جرائم الاغتيالات والتفجيرات ومواجهة الاحداث الامنية التي تقع في لبنان». ويقول: «لسنا عاجزين. لكن الامور الامنية لها استكمالاتها. نحن نتوصل الى نسبة كبيرة من المعلومات بجهود بشرية. لكن افتقارنا الى الوسائل التقنية المتطورة يؤدي في غالب الاحيان الى بقاء حقائق الامور منقوصة. فالوسائل التقنية لملاحقة جرائم الداخل لا تزال غير متوافرة لدينا. والادلة الجنائية تحتاج الى تجهيزات تواكب تطور الجريمة. كما ان التسييس يؤثر في عملنا ويحمي المرتكبين، لا سيما عندما تدخل السياسة الى القضاء. ايضاً عندما تصبح ملاحقة المذنب او تعقبه او ردعه مواجهة مع طائفة بأكملها، لا سيما عندما يجهّل الفاعل ونعجز عن معرفة اي فرد من الجماعة المسلحة هو المذنب الفعلي في أحداث معينة».