أرى، بصفتي جراح دماغ، أن فصلاً صغيراً من تاريخ جراحة الأعصاب يكتب مساء كل خميس على شاشة التلفزيون حين تبث حلقة من مسلسل مستشفى «غرايز أناتومي». ومساء الخميس، أراقب عمل د. ديريك شبهرد (الممثل باتريك دمبسي). فهو يؤدي أسبوعياً أصعب عمليات جراحة أعصاب الدماغ في تاريخ التلفزيون. وقبل أسابيع، بدأ ديريك يواجه مشكلات. فهو فقد مريضاً على طاولة العمليات. وحال المريض كانت صعبة وحرجة. وأنا اكثر الناس دراية بحاله. فهو كان مريضي في الحياة الواقعية، ونقلت قصته الى كاتبي سيناريو المسلسل. وبدأ ديريك يفقد ثقته بنفسه، وأرخى ذقنه وترك حلاقتها. وتخلف عن المجيء الى العمل، وبدأ يعاقر الشراب. وإذا لم يتماسك ديريك، فقد يخسر مكانته الطبية في مستشفى «غرايز» الوهمي. وقد ينزلق ديريك من الشراب الى الاكتئاب. وهو رمى خاتم خطوبته من صديقته وزميلته ميريديث في الغابة. وقد يحاول الانتحار. وإذا رحل عن الحياة، اضطر أنا بدوري الى الرحيل. فأنا مستشار كاتبي سيناريو «غرايز أناتومي» الطبي. وبلغنا، ديريك وأنا، مفترق طرق وجودياً. وأمامنا الموت أو الحياة. ومصيرنا في يد كتّاب السيناريو. فهم يقررون، وراء الابواب المغلقة، من يعيش ومن يموت. وقال لي هؤلاء أن مصير الشخصيات تخطه وجهة القصة. واستنكرت وسألتهم عن وجهة القصة، والى أين يفترض أن تفضي، وماذا سيحصل. وقلت أنتم الكتّاب، أنتم تعرفون ما سيحصل، أليس كذلك؟ وأدركت أن الحياة تحاكي الفن. فالمرضى يطرحون عليّ الاسئلة نفسها عن مدى خطورة مرضهم، والعمليات الجراحية الكبيرة. ويرجونني أن أعلمهم عن وجهة قصتهم مع المرض. هل سيشفون، أم يتحسنون أم ينتكسون وينتظرون الاسوأ؟ فهم أمام احتمال الموت ودوامته في انتظار الواقعة. ومعظم مرضى د. ديرك شبهرد المرضية حكاياتهم مستوحاة من تجربتي في الجراحة. وأنا أنهل من هذه التجربة عندما يتصل كتّاب السيناريو ليطلبوا حالاً تناسب حوادث حلقتهم. وأروي بواسطة شخصيات المرضى في حلقات المسلسل اخفاقاتي ونجاحاتي، على حد سواء. ويكاد قلبي يتوقف عن الخفقان، عندما يبلغ ديريك مرحلة حاسمة وحساسة في غرفة العمليات، قبيل لحظات من الوقفة الاعلانية. فيمثل امامي المريض الفعلي المستلقي على طاولة العمليات، وأرى القلق المرتسم على وجه والدته أو ابنه. وأعجز عن رؤية الممثل الذي يؤدي الدور ويتظاهر بالمرض. وأتذكر صوت انذار الجهاز الموصول بالمريض، وأسمع القلق في صوت طبيب التخدير وهو يقول أن نبضات القلب تخفت وأننا على وشك خسارة المريض. فأصلي، وأدعو الله أن يمدني بالعون. وقد يفلح ديريك في انقاذ مريض فقدته في غرفة العمليات. فتنهمر دموعي حزناً. وأشتهي ألا يكون الواقع مختلفاً عن السيناريو التلفزيوني. ففي سيناريو الواقع، تنزلق حيوات بعض المرضى من أناملي في غرفة العمليات فجأة، على رغم أن الامور كانت واعدة قبل ثوان. ويلازم طيف المريض الذي قضى الجراح طوال حياته، ويرافقه. وفي بعض الأحوال، لا ترقى خبرات الطبيب وتشخيصه الى مستوى الحالة، وتعجز عن مساعدة المريض على تجاوز محنته. وتباغت المفاجأة الطبيب أحياناً فيشق المريض لاستئصال ورم ظهر في صورة الاشعة، ويقع على خراج بسيط. ويزف الخبر السعيد الى الاهل القلقين. وهذه نهاية سعيدة. وباتريك دامبسي ممثل بارع يهتم بتفاصيل أدائه. اتصل بي مرة ليسألني عن مريض من المفترض في السيناريو أن يفقده تحت مبضع العمليات، ويرفض التخلي عن المريض على رغم موته الدماغي، ويواصل العملية راجياً نجاة مريضه. وسألني ديريك عن حال الطبيب في مثل الحال هذه. أجبته أن الجراح يجد نفسه منقسماً: الشطر الاول منه انساني، يصرخ طالباً الخروج من أكثر المواقف كآبة وسوداوية، والثاني مهني محترف وتقني يأمر الشخص بالصمود، وبعدم الاستسلام. فهو الشخص الوحيد المخول انقاذه. ويعلم الطبيب أن أحداً في غرفة العمليات لا يشاركه الشعور باليأس الذي يفطر قلبه. وآمل بأن تعدل خاتمة الفصل الخامس من «غرايز أناتومي»، وألا تستبعد شبرد. * أستاذ جراحة الاعصاب في جامعة أريزونا ومستشار «غرايز اناتومي» الطبي، عن «واشنطن بوست» الاميركية، 14/5/2009، اعداد منال نحاس