من الصعب، اليوم، حسبان الايطالي دومنيكو سكارلاتي في عداد الموسيقيين الكبار الذين اعطوا فن الأوبرا أكبر نتاجاته وأكثرها خلوداً على مر الزمن. فالرجل الذي عاش وعمل خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر، لا سيما بين الجزيرة الايبيرية وموطنه الأصلي ايطاليا، عرف دائماً بكونه واحداً من الذين أبدعوا في فن الكتابة لآلة البيانو. ولا سيما في كتابة المقطوعات القصيرة (من سوناتات وغيرها)، وكتابة شتى أصناف الكونشرتو. ومن هنا فإنه حين يذكر ويمجّد، فإنما يكون منطلق ذلك انتاجه في مجال الكتابة لتلك الآلة التي أحبها وأبدع فيها، وخلّدته. ومع هذا، هناك أوبرات عدة وضعها سكارلاتي، ولا سيما للمسرح الميلودرامي، عاشت طويلاً من بعده، وبعضها لا يزال يقدم الى اليوم بنجاح. ومن هذه الأعمال ثلاثية عن «هاملت» اقتبسها من شكسبير، وضاع العديد من صفحاتها على أية حال، وأعمال مقتبسة من المسرح الاغريقي التراجيدي. وعلى رأس هذه الأعمال الأخيرة تقف أوبرا «إيفيجنيا في أوليدي» Ifigenia in Aulide التي لحّنها على أساس نص كتبه كارلو سيغسموندو كابيتشي في استيحاد مباشر من مسرحية يوريبيدس الشهيرة. وهي على أية حال واحدة من أوبراتين كتبهما سكارلاتي انطلاقاً من تلك المسرحية، وتتكاملان في ما بينهما، أما الثانية فهي «ايفيجينيا في توريدي». وحتى إذا كان تاريخ الموسيقى الأوبرالية في أيامنا هذه ينحو الى تفضيل أوبرا بنفس الموضوع والأجواء كتبها غلوك (1714 - 1787)، أو أخرى أيضاً كتبها كيروبيني (1760 - 1842)، فإن الريادة، في مجال موسقة هذا العمل التراجيدي الانساني الكبير تبقى لسكارلاتي. وبالنسبة الى هذا الأخير يبقى أن أوبرا «ايفيجينيا في أوليدي» تعتبر، كما كل أعماله الأوبرالية الأخرى، من أعمال «الشباب»، ذلك أنه لحنها في وقت لم يكن انصرف بعد فيه الى كتابة أعماله الأوركسترالية - وللبيانو - الكبيرة، وبخاصة حيث انضم الى البلاط الاسباني ووجد نفسه هناك غير معني بكتابة الأوبرا، طالما ان ذلك البلاط لم يكن يستسيغ كثيراً ذلك النوع من الفن، معتبراً اياه أقرب الى الانحطاط والمستوى الشعبي ولا يليق بالملوك وبلاطهم. لحّن سكارلاتي هذه الأوبرا في العام 1713 وكان في الثامنة والعشرين من عمره. وهي قدّمت للمرة الأولى في خريف العام نفسه، علماً أن ثمة مؤرخين يقولون ان تقديمها الأول كان في بلاط الملكة ماريا كازيمير في بولونيا، فيما يقول آخرون انها انما قدّمت للمرة الأولى في روما، وتحديداً في قصر زوكاري يوم 11 كانون الثاني (يناير) من ذلك العام. المهم ان هذا العمل ينتمي تماماً الى ذلك الزمن، وقد حرص ملحنه فيه على أن يماشي التجديدات التي كانت طرأت على فن الأوبرا في عصره، لا سيما من ناحية اعطاء المكانة الأولى للبطل الفرد، والتركيز على مجابهة هذا الفرد للمجتمع والأقدار، على غرار ما كانت تقوم عليه التراجيديات اليونانية تماماً. وفي هذا الاطار لم يكن غريباً، أن يختلط البشر بآلهة اليونان في عمل من هذا النوع. كما لم يكن غريباً أن يكون الخير في جانب البشر، بالتعارض مع غضب الآلهة وجبروتهم. وهو أمر عبرت عنه موسيقى سكارلاتي تماماً، في انسيابيتها وتركيزها على الأحاسيس الميلودرامية، بدلاً من اصطناع الفخامة في اللحظات الأكثر حرجاً. ومن هنا ما قيل دائماً من أن سكارلاتي انما شاء من الموسيقى التي وضعها لذلك العمل، أن تخدم روح العمل، لا أن يتفنن في فرض موسيقاه، كما كان دأب زملائه وسابقيه. حيث ان الأوبرا جاءت في نهاية الأمر وكأنها مجرد موسقة لعمل راسخ له كيانه، بدلاً من اتخاذ النص ذريعة لا أكثر، لوضع موسيقى صاخبة. ويقيناً ان هذا يعود الى ان سكارلاتي كان يعلم منذ البداية أن توجهه النهائي سيكون نحو التأليف الموسيقي الخالص (ولا سيما لآلة البيانو) أما تلك الأوبرات التي ينهمك بوضعها فليست سوى تمارين وفتح آفاق بالنسبة اليه. تدور أحداث أوبرا «ايفيجينيا في أوليدي» في الأزمان الاغريقية القديمة، كما نعرف، وبالتحديد أيام الحروب الطروادية. تبدأ الأوبرا والسفن اليونانية على وشك الابحار متوجهة الى حيث الحروب قائمة للمشاركة فيها. وفجأة تهب عواصف عاتية، ارسلتها الإلهة آرتيميس في رغبة منها بالحيلولة دون ابحار السفن. وإذ يتساءل الملك آغا ممنون عما حدث، وعن السبب الذي يجعل تلك العاصفة تهب في غير موسمها وفي شكل غير متوقع، ينبئه العراف/ الكاهن كالكانتي أن آرتيميس غاضبة عليه بسبب اهانة كان سبق، هو، أن وجّهها اليها في خاليات الأيام. فكيف يمكننا أن نهدّئ من غضبها ونمكّن السفن، بالتالي، من الابحار؟ يسأل آغا ممنون الكاهن، فيجيبه هذا أن الثمن الذي تطلبه آرتيميس ليس أقل من حياة ابنة الملك الأميرة ايفيجينيا. يجب أن يضحي الملك بأبنته ان كان حقاً راغباً في ابحار سفنه. وهنا يسقط في يد آغا ممنون ويشعر انه ممزّق بين أمرين أحلاهما مرّ بالنسبة اليه: حبه لابنته من جهة ومن جهة ثانية عدم قدرته على التضحية بها، وإلحاح الشعوب الاغريقية عليه بالإبحار لكي ينقذها من الهزيمة. وتستغرق حيرة الملك وتساؤلاته زمناً، تتصارع لديه فيه الأهواء والرغبات والمشاعر ويحس أنه معرض للضغوط من كل جانب. وفي نهاية المطاف لا يجد بداً من أن يخضع مكرهاً ومخنوقاً، لرغبات الآلهة ارتيميس. ويستدعي ابنته ايفيجينيا مصحوبة بأمها الملكة كليتمنسترا، ليبعث بها في رحلة طويلة الى معسكر الآخيين، حيث يغمر الفتاة الاعتقاد بأنها انما ذاهبة الى هناك لتتزوج من فارس أحلامها الأمير الشاب وبطل الحرب المقدام آخيل، المعروف في ذلك الحين ب «أمير امراء اليونان». وهكذا تنطلق الفتاة نحو الزواج، بينما تكون انطلاقتها في الحقيقة نحو الموت. وحين تتضح الأمور في النهاية، يبدأ الكاهن كالكانتي باقتياد الأميرة الشابة الحسناء، نحو المحرقة ليتم التضحية بها، على رغم صراخ أمها ونحيبها واعتراض الأمير آخيل. ولكن، لأن النهاية، هنا، يجب أن تكون سعيدة، ولأن الآلهة لا بد لها - في مثل هذه الظروف - من ابداء أعلى درجات التسامح، يصل عفو أرتيميس في اللحظات الأخيرة، وايفيجينيا على وشك الموت حرقاً. وهكذا تنتهي المأساة وسط فرحة تعطيها موسيقى سكارلاتي كل حقها، إذ تبدو مستقاة مباشرة من الأهازيج الشعبية والأعياد الصاخبة. منذ عرضها الأول حققت أوبرا «ايفيجينيا في اوليدي» نجاحاً كبيراً، وانضمت الى شقيقات لها كان سكارلاتي قد بدأ يصنفها منذ العام 1703 (وكان بعد في الثامنة عشرة) في مسار أوبرالي سيوقفه في العام 1720 منصرفاً بعده الى كتابة روائعه الموسيقية الخالصة. ودومنيكو سكارلاتي كان ابناً، ولد في العام 1685 في نابولي لأب كان موسيقياً شهيراً بدوره (هو اليساندرو سكارلاتي). ومنذ العام 1701 عين دومنيكو عازف أورغن في كنيسة نابولي، لتكون تلك بداية عمل موسيقي تواصل حتى رحيله في العام 1757 في مدريد. وحياة هذا الفنان المبكرة غير معروفة في تفاصيلها كلها، ولكن من المعروف أنه بعد بدايات جيدة، في الأوبرا تم في فن الكونشرتو والصوناتا، عيّن وهو في الخامسة والثلاثين موسيقياً في بلاط لشبونة، وراح يعلم العزف على البيانو للأميرة ماريا باربارا أميرة استورياس. وحين أصبحت هذه، بالزواج، ملكة اسبانيا، توجه معها الى مدريد حيث بقي حتى رحيله. وفي مدريد كتب القسم الأعظم من مقطوعات صغيرة (بلغ عددها أكثر من 500 مقطوعة) تعتبر حتى اليوم آية في البهاء الموسيقي، بدأها بثلاثين مقطوعة نشرها في لندن... وتبدو فائقة القوة في بعدها الارتجالي بخاصة. والطريف أن أعظم ما كتبه سكارلاتي في هذا المجال انما يعود الى ما بعد عامه الخمسين. وهذا ينطبق بخاصة على معظم ما نعرفه اليوم من أعماله. [email protected]