ها هي الكراهية تعود الى ذروتها. تسعة أعوام مضت من دون أن تهدئها. كان الذهاب الى أفغانستان، ثم الى العراق، رحلتين في سبيل الانتقام والعزاء والنسيان، لكنهما لم تكونا موفقتين. ومع بداية العودة من المغامرات الخارجية يتبدى ان الثأر كان مكلفاً جداً ولم يشفِ الغليل، فيطرح السؤال نفسه: ولكن ماذا فعلنا في هذه الأعوام التسعة وماذا حل بنا، أصبحنا مدينين للصين، ونخشى غضب روسيا، وضربتنا أزمة مالية آلت بكثيرين الى الإفلاس وفقد كثيرون وظائفهم وبيوتهم، وأصبح لدينا رئيس أسود في البيت الأبيض مشكوك في أصوله وديانته، وفوق ذلك يراد بناء مركز ثقافي إسلامي في موقع «غراوند زيرو»، وفي داخله مسجد... وهكذا، طفح الكيل. لعل في استطاعة جورج دبليو بوش أن يقول الآن، وإن لم يكن على هذا القدر من الحنكة، انه لو لم ينطلق الى الحرب لكانت المقتلة الكبرى دارت داخل أميركا. لكنه أنهى عهده وهو يسمع يومياً نداءات تحضّه على سحب الجنود وإغلاق معسكر الاعتقال في غوانتانامو والمعتقلات السرية. لم يفعل. ترك هذه المهمات لخلفه الذي بدا كأنه انتخب لأجلها. وها هم الذين طالبوا بمغادرة العراق، ويطالبون اليوم بترك أفغانستان لأهلها، لا يساندون باراك أوباما وهو ينسحب، بل ينظرون اليه كرئيس مهزوم، أما صانع الحرب – الهزيمة فيبدو بمنأى عن الغضب. حتى ان القس تيري جونز يعلّق صورة بوش في مكتبه، ويتشارك مع أوباما في استذكار قولة بوش: «لسنا في حرب على الإسلام» بل على التطرف الإسلامي. لكن القس المغمور يدين الى تطرفه الذي جعله مشهوراً، ولو انه مضى الى ما اعتزمه من حرق للمصاحف لأصبح الرديف الأميركي المناوئ لأسامة بن لادن والملا عمر، زعيمي «القاعدة» و «طالبان». الدولة العظمى تمر بلحظة مزاج سيئ، لحظة قد تطول، لأنها لا تعرف ما الذي تريده، ويفاقم استثارتها تكالب سياسي بلغ حد الشراسة. فمناوئو الرئيس الأسود لا يتوانون عن استخدام أي سلاح ضدّه، بما في ذلك احتقار «القيم الأميركية» حتى لو ارتد عليهم في الآتي من الأيام. وإذ يعكس الإعلام الأميركي إدراكاً مخزوناً لما يعتمل داخل المجتمع، إلا أنه لا يخفي أيضاً شيئاً من الصدمة والذهول. لم يكن أحد يعتقد أن حباً للمسلمين قد نشأ ونما بمجرد أن الإدارة ألغت مصطلح «الحرب على الإرهاب»، لكن ما ظهر من جهر وإشهار فاق المعقول والمتصور، وما يقال في التظاهرات المعارضة للمسجد النيويوركي أوضح بصراحة فظّة ان المسألة أخطر من مشروع المسجد. كانت خلاصة الذكرى التاسعة لهجمات 11 أيلول (سبتمبر) صافعة ببساطتها: «الإسلام يقسم أميركا الغاضبة». وعدا ان نقل مكان المسجد لم يعد موضع تساؤل بل أصبح بحثاً عن خيارات بديلة، فإن السؤال المتجدد كما لو كنّا غداة 11 أيلول يدور على احتمالات التعايش مع المسلمين وحتى الأميركيين المسلمين. كان هؤلاء قد جهدوا في النأي بأنفسهم عن كل ما يمكن أن يشي بأي رابط بينهم وبين «أبطال غزوة مانهاتن»، لكنهم بقوا في أنظار مواطنيهم من «أولئك» المسلمين. كانوا أبدوا كل الحزن على ضحايا الكارثة واستنكروا فعلة ال 19 إرهابياً المتنكرين بالإسلام وصبروا على ردود الفعل العدائية الى أن هدأت النفوس قليلاً، ثم عادوا يستشعرون تلك العدائية ساخنة متجددة منذ نحو السنة، من دون أن يعرفوا سبباً محدداً لتفسيرها. الأرجح ان إدارة أوباما تجهل أيضاً السبب. أهو الرئيس نفسه اسماً وعرقاً وإيحاءً، أهو تفاعل الإحباطات العراقية والأفغانية، أهي إفرازات الأزمة الحالية، أهي محاولات الانتقال من مناخ 11 أيلول، أم أنها كل ذلك وغيره في آن؟ من الواضح ان الوقت لم يحن بعد لذاك الانتقال، ولم يكن هناك داع للتعجل فيه، كان يكفي إدارة أوباما ألا تتأخر ولا تستثمر في الخوف وألا تحافظ عليه وتديمه، كما كان ديك تشيني ينصح، لكنها كوفئت بأن وُصمت ب «التهاون في الأمن» حتى غدا فخاً خبيثاً لها، فعندما يتزاوج القلق الأمني مع التشوّش السياسي مع الاستياء المعيشي يضيق أفق الثقافة وتضمر فسحة التسامح، وبالتالي في هذه الحال يأتي مشروع المسجد النيويوركي في وقت غير مناسب، مهما حسنت المقاصد، وحتى لو كان أصحابها أميركيين مسلمين لهم حقوقهم المعترف بها، مثلهم مثل الذين مرّوا بمحن من قبلهم، من يهود وكاثوليك وإرلنديين وإيطاليين ولاتينيين، ولا سيما الأفارقة، وحتى اليابانيين الذين اضطهدوا أيّما اضطهاد بعد موقعة بيرل هاربر وتداعياتها. من المؤكد ان مشروع المركز الثقافي الإسلامي بني على مفهوم حضاري مستقبلي، لكن هل يعقل أن يكون أصحابه ارتكزوا فقط الى قيم الحريات الدينية في أميركا ولم يلقوا ولو نظرة عاجلة على واقع لا يزال زاخراً بالصعوبات التي لا يفيد تحديها ولو بنيّات طيبة، ولا حتى بطوباوية ساذجة. يكفي ان الجدال في شأن المسجد هو الذي أطلق فكرة حرق المصاحف، ثم ان هذه الفكرة المجنونة طرحت بدورها السؤال: كيف يمكن إقناع العالم بجدوى الحرب في أفغانستان، أي ضد حركة «طالبان»، فيما يحرق المصحف علناً في كنيسة أميركية. لذلك استذكر الجنرال ديفيد بترايوس مسألة سجن أبو غريب في معرض استنكاره الحرق المزمع للمصاحف، إذ أراد ان يقول للأميركيين إنها «فضيحة» أخرى، يكفي أيضاً أنه على خلفية الانقسام حول المسجد بدأت ساره بالين تبني طموحها كمرشحة محتملة للجمهوريين في الرئاسات المقبلة، بما يعنيه ذلك من جنوح الى اليمين المحافظ الذي يحتضن كل التعصبات الغرائزية. بموازاة أميركا المستطيرة غضبها يبدو العالم أيضاً متوتراً ومحتقناً. فمن كل الجهات تسارعت التحذيرات من حرق المصاحف. في بعض البلدان تتواصل ردود الفعل كأن الحرق حصل فعلاً. كان متظاهرون في نيويورك رفعوا أوراقاً مصحفية ممزقة، فردّ الكشميريون بإحراق مدرسة مسيحية فقتل 14 منهم في مواجهات مع الشرطة. هذه عينة بسيطة من السيناريو الكارثي الذي أمكن تفاديه. لكن شيئاً لم ينته بعد، فالأصولية المضادة انتهزت الانقسام الأميركي حول المسجد لتجعل من نيويورك محجة لها، حتى ان العنصري الهولندي غيرت فيلدرو حمل «حربه الصليبية على الأسلمة»، كما يسميها، للمشاركة في 11 أيلول متضامناً مع أميركا ونيويورك اللتين «لا تتوافقان مع الشريعة». هناك من وصف خطط حرق المصاحف بأنها «عمل إرهابي». والأكيد ان الإرهاب لا يطيّر العقول فحسب، بل انه يستولد ذاته من غباء الذين يدّعون أنهم ألد أعدائه. * كاتب وصحافي لبناني