رأى رئيس الوزراء السوداني السابق، زعيم حزب الأمة المعارض الصادق المهدي أن بلاده تواجه أخطر مرحلة في تاريخها منذ نشأتها وأن الشهور المقبلة ستحدد أن يكون السودان أو لا يكون، مؤكداً أن المسرح يعد للاستفتاء على تقرير مصير الجنوب بعد نحو أربعة شهور في ظل توقع اختلاف على نتائجه، مما يضع البلاد أمام «سيناريو كارثي ومواجهات مدمرة بين الشمال والجنوب». وقال المهدي في حديث إلى «الحياة» إن الاختلاف المتوقع على نتائج الاستفتاء يهيئ الظروف للاقتتال «وإذا حدث هذه المرة سيكون بين كيانين وبإمكانات تدميرية هائلة وبتحالفات أجنبية»، لافتاً إلى أن الانفصال سيكون محطة من محطات المواجهات وليس محطة نهائية لحل المشاكل بين الشمال والجنوب، اذا لم تحسم القضايا العالقة المرتبطة بالاستفتاء. وأفاد أنه في حال حدوث انفصال عدائي للجنوب ستتدهور الأوضاع في البلاد وستتعقد أزمة دارفور كثيراً، محذراً من أن مناطق الحدود بين الشمال والجنوب ستتحول إلى مصدر نزاع وقتال، مشيراً إلى أن الطريقة التي يعالج بها ملف دارفور أوصلت عملية السلام في الإقليم إلى طريق مسدود بعد سبعة أعوام من الأزمة. وأضاف المهدي أن الأوضاع التي وصلت إليها بلاده هي حصيلة الأعوام العشرين الماضية من حكم الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة عبر انقلاب عسكري على نظام ديموقراطي منتخب كان على قمته، مؤكداً انه لم يكن يتوقع أن يصل السودان إلى هذه المرحلة عندما أزاحه الرئيس عمر البشير عن السلطة في حزيران (يونيو) 1989. وهنا نص الحديث: قبل نحو أربعة شهور من الاستفتاء على تقرير مصير إقليمجنوب السودان، كيف ترى المشهد السياسي؟ - كل الدلائل تشير حالياً إلى وجود خطاب حاد ما بين الدعوة إلى الوحدة في شمال البلاد والى الانفصال في جنوبها وتبني حزب المؤتمر الوطني الحاكم الوحدة وشركائه في «الحركة الشعبية لتحرير السودان» الانفصال، ووجود خلافات الشريكين وصلت إلى مرحلة ما يسمى حرباً باردة بين الطرفين، وهذه الحرب الباردة زادت حدتها منذ نتائج الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة بسبب اتهام حزب المؤتمر الوطني بتزوير الانتخابات في شمال البلاد و «الحركة الشعبية» في جنوبها ووقعت درجة عالية جداً من التراشق بينهما منذ نتائج الانتخابات في نيسان (ابريل) الماضي. وماذا يعني ذلك؟ - جملة هذه المواقف بين شريكي الحكم السوداني ستضع مفوضية الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب في وضع صعب، بل هناك استحالة في إجراء استفتاء نزيه، وستكون نتيجة الاستفتاء محل خلاف، إذ يمكن أن يقبلها طرف إن جاءت وفق رؤاه، ويرفضها طرف إن جاءت مخالفة لرؤيته. وإذا نظرنا إلى تجربة الانتخابات الأخيرة مع كل مساوئها، فإن ظروفها أفضل مع أنها كانت سيئة ومضروبة، وهذا يعني أن تجربة الاستفتاء ستكون أسوأ وأكثر عيوباً من الانتخابات، والاختلاف في شأن الانتخابات ونتائجها اقل خطراً من الاختلاف على نتائج الاستفتاء. هل تتوقع أن يعيد الخلاف على نتائج الاستفتاء - إذا حدث - الحرب الأهلية من جديد؟ - للأسف الأوضاع تتجه إلى موقف استقطابي حاد جداً مع وجود عشرين مشكلة وقضايا عالقة بين شريكي الحكم أهمل الطرفان حلّها في الفترة الانتقالية لاتفاق السلام، مرتبطة بالمياه والحدود والعملة والديون والجنسية وغيرها، وهذه المشاكل ستكون كلها قابلة للانفجار... وفي وجود هذا المناخ والاختلاف المتوقع على نتائج الاستفتاء فإن الظروف كلها ستكون مهيأة للاقتتال، وإذا حدث هذه المرة فسيكون بين كيانين وبإمكانات تدميرية هائلة وبتحالفات أجنبية، وهذا معناه تعريض البلاد لمخاطر كبيرة جداً، خصوصاً إذا رجح الاستفتاء الانفصال كما يتوقع، وستكون لهذا الانفصال آثار سالبة جداً في الشمال والجنوب على حد سواء وعلى دول الجوار أيضاً، ومعنى هذا كله أننا في واقع نهيئ فيه ظروفاً محددة نحو الهاوية. لكن، هل يمكن تدارك ذلك وهل يسعف الوقت؟ - بلا شك، السودان يواجه سيناريو كارثياً، يمكن العمل على تجنبه بسرعة، وفي ما يتعلق بالمشاكل والقضايا العشرين التي ما زالت عالقة اقترحنا أن تُسند إلى مفوضية حكماء يرضى عنها حزب المؤتمر الوطني وشركاؤه في «الحركة الشعبية»، وينبغي أن تكون قومية ومحايدة لتكلف مهمة بحث هذه النقاط وتحديد حلول لها في فترة زمنية مريحة حتى نهاية 2012، ولكن تكون مرتبطة بموعد الاستفتاء، وهذا ممكن باعتبار انه سيكون حلاً بالتراضي. وماذا إذا انفصل الجنوب؟ - لدينا مشاكل مع جيراننا، فإذا انفصل الجنوب فستصبح القضايا العالقة مشاكل جوار، ومن الأفضل ألا تلقي بظلالها على نتيجة الاستفتاء. أما في شأن آلية الاستفتاء، فلا يمكن أن تكون مقبولة لكل الأطراف، لذا اقترحنا إسناد هذا الموضوع إلى الأممالمتحدة مع اختيار دول محايدة للقيام بهذه المهمة، خصوصاً ان الشريكين في كل القضايا الحالية يلجآن إلى طرف دولي. تكليف الأممالمتحدة الاستفتاء يخالف القانون واتفاق السلام؟ - لا توجد وسيلة لجعل مفوضية الاستفتاء مقبولة للإطراف، ولا وسيلة لجعلها فاعلة وخروجها من حال الشلل إلا عبر الخروج من التفكير النمطي إلى تفكير (راديكالي) لمواجهة الموقف، ودائماً يلجأ الناس إلى حلول استثنائية، عندما تكون المشاكل استثنائية. تنظيم الاستفتاء قضية وطنية، هل من الحكمة أن يكون مسؤولية الأممالمتحدة؟ - في كل مشاكل القائمة لجأ الشريكان إلى جهة دولية، وحدث هذا بالنسبة الى النزاع على منطقة أبيي الذي أحيل على هيئة التحكيم الدولية، وكذلك في آليات وقف النار في الجنوب ودارفور الذي تراقبه بعثة حفظ السلام الدولية «يونميس» والبعثة المشتركة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور «يوناميد». لقد تحاور الشريكان عن مباشرة تحت وصاية ورعاية أجنبية ولم يفلحا في حل أي مشكلة بينهما، فمن باب أولى في مسألة خطيرة كالاستفتاء اللجوء إلى آلية دولية. لديكم آراء في قضايا الاستفتاء لكنكم قاطعتم لقاء الرئيس عمر البشير مع القوى السياسية في هذا الشأن؟ - رأينا في ما يتعلق بلقاء البشير ببساطة أن حزب المؤتمر الوطني و «الحركة الشعبية» حسما كل الأمور ثنائياً واتفقا على قانون الاستفتاء، كما اتفقا على مناقشة المشاكل المختلف عليها ثنائياً وهي اتفاقات في رأينا معيبة جداً، واتفقا على آليات غير صالحة لإجراء استفتاء نزيه تقبل الأطراف نتائجه، وجرت دعوتنا للمناقشة بعد اتفاقات وتفاهمات مهمة جداً لكنها معيبة لم نكن طرفاً فيها. ودعوتنا للمشاركة في أمر نحن ندرك خطأه وخطره، تجعل مشاركتنا زخرفاً لهذه المرحلة من دون أن يكون لنا رأي في جوهر المسائل التي ستؤدي إلى كارثة في بلادنا. ألا تعتقد أن ذلك يجعلكم في موقف سلبي في وقت تواجه بلادكم أخطر استحقاق يمكن أن يؤدي إلى تمزيقها؟ - مصلحة السودان في أن نميز موقفنا ونحدد التشخيص الصحيح للمسألة ونضع «الروشتة» العلاجية الصحيحة وهذا ما فعلناه. ماذا تعني ب «الروشتة» أو الوصفة العلاجية لقضايا السودان؟ - حتى إذا لم يحدث انفصال للجنوب فهناك ضرورة لحل مشاكل المياه والنفط والحدود، وهل تدخل في المسائل العشرين التي يجب حسمها، سواء كانت نتيجة الاستفتاء وحدة أو انفصالاً. ملتقى الرئيس البشير مع القوى السياسية أوصى بتشكيل هيئة للعمل من اجل وحدة البلاد، ورشح أن زعيم الحزب الاتحادي الديموقراطي محمد عثمان الميرغني سيكون رئيساً للهيئة، ألا يعزز ذلك فرص الوحدة؟ - أرى الآن في الشمال دعوة الى الوحدة ستأتي بنتائج عكسية للأسباب الآتية: أولاً، هناك نزعة لاعتبار الخيار الوحيد المشروع هو الوحدة وتخوين خيار الانفصال، وهذا النهج أدى إلى رد فعل قوي في الجنوب يصف الوحدة بأنها استعمار داخلي. الطرح الصحيح هو اعتبار الخيارين مشروعين، مع إظهار مضار الانفصال، ودعم الوحدة. لكن الطريقة الآن مرافعة من أجل الوحدة خلقت رد فعل قوياً في الجنوب في الاتجاه المضاد، وبما أن «الحركة الشعبية» هي المسيطرة على إقليمالجنوب، فهذا يعني أن الدعوة إلى الوحدة بأساليب منفرة ستؤدي إلى تعزيز الفكرة الانفصالية. ثانياً، لكي تكون آلية العمل من اجل الوحدة مجدية، يجب أن تكون مقنعة وقومية وألا تكون ذراعاً لحزب المؤتمر الوطني الحاكم، لأن الأخير يتحمل أوزار سياسات أدت إلى الدعوة إلى تقرير مصير الجنوب. فالدعوة إلى تقرير المصير انطلقت من واشنطن عبر مؤتمر الأحزاب الجنوبية رداً على طرح الحزب الحاكم جعل هوية السودان إسلامية عربية من دون مراعاة التنوع والتعدد... والجنوبيون يعتقدون أن السودان حسم هويته العربية الإسلامية وأنهم غير مسلمين ولا عرب، لذلك طالبوا بتقرير مصيرهم. هذا كان في بداية حكم الإسلاميين، لكن الوضع تغير بعد العام 2005 بتوقيع اتفاق السلام الذي أقر حكم البلاد عبر نظامين، إسلامي في الشمال وعلماني في الجنوب؟ - لا، فإن سياسات حزب المؤتمر الوطني الحاكم استمرت تعزز الاستقطاب بصورة أو بأخرى، وحتى اتفاق السلام قيل انه يدعو إلى جعل الوحدة جاذبة ولكن وضعت في هياكلها قضايا تجعل الانفصال جاذباً، ومن ذلك تقسيم البلاد على أساس ديني، الشمال تطبّق فيه التشريعات الإسلامية، وجنوب علماني، واقتسام الثروة على أساس جغرافي، ويحسب نصيب الجنوب ليس من موارد البلاد كلها ولكن من نفط الجنوب، ما يعزز موقف من يدعو إلى الانفصال للاستئثار بنفط الجنوب. هذه السياسات هي المسؤولة عن تبرير الدعوة إلى تقرير المصير وعن بروز الاستقطاب، والآن عن تعزيز ردود الفعل نحو الانفصال وجعله جاذباً للجنوبيين. لكنكم في «التجمع الوطني الديموقراطي» المعارض وافقتم على منح الجنوب حق تقرير المصير وأقررتم ذلك في مواثيقكم منذ العام 1995، لماذا قبلتم هذا الموقف؟ - قبلنا حق تقرير المصير باعتبار أن الظروف فرضت واقعاً جديداً، وفي السياسة لا يمكن أن تتحدث عن مطلقات. نعتقد أن سياسات حزب المؤتمر الوطني الانقلابية خلّفت واقعاً جديداً وصار هناك إجماع جنوبي على المطالبة بتقرير المصير، وعندما كنا في السلطة مسؤولين عن عملية السلام كانت مبرأة من العيوب وكنا في صدد عقد مؤتمر قومي دستوري في 18 أيلول (سبتمبر) 1989 من دون وساطات دولية، وكانت مطالب الجنوبيين تشمل ثلاث قضايا: نصيب عادل في السلطة ونصيب عادل في الثروة واستثناء الجنوب من الأحكام الإسلامية، وكان هذا ممكناً. لكن نظام الرئيس عمر البشير عقّد الموقف ودفع الجنوبيين إلى المطالبة بتقرير المصير، فصار من يرفض كأنما يريد أن يقول يجب أن نستمر في الحرب. وتوصلنا إلى قناعة بأن الحرب دمرت السودان، لذلك قبلنا هذا الواقع الجديد وهو تعامل مع واقع لم نشترك فيه ولم نصنعه ولكن صرنا جميعاً ضحاياه، فالفكرة كانت أن لا سبيل للتفاهم مع القوى السياسية الجنوبية إلا بعد الاعتراف بحق تقرير مصير الجنوب. بعض القيادات الجنوبية يرى أن التراجع عن تطبيق التشريعات الإسلامية يمكن أن يحفز الجنوب نحو الوحدة، هل ترى ذلك ممكناً؟ - في الواقع هناك حرب رموز الآن، فلا يوجد في الشمال حكم بالإسلام والتطبيق الإسلامي كله تشوهات، وفي الجنوب النص على مصادر التشريع في الدستور الجنوبي هو الإجماع والعرف، والعرف في الجنوب مستمد من الأديان. إذاً هناك أيضاً تأثير ديني، وهناك تأثير ديني مسيحي، والكنائس تلعب دوراً سياسياً كبيراً في الجنوب، لكن النص في اتفاق السلام يستند إلى تقسيم البلاد على أساس ديني، وهذا الخطأ، ونحن نرى ولا نزال أن لا مانع أبداً في ان يحرص المسلمون على تطبيق الأحكام الإسلامية على أن يكون هناك استثناء طفيف من أية أحكام ذات محتوى إسلامي على غير المسلمين في البلد، والمهم عدم تقسيم البلاد على أساس ديني جغرافي وإنما التطبيق الإسلامي مع المسلمين حيث وجدوا. وفي رأينا هذا أسلوب أفضل للمحافظة على الوحدة والالتزام الإسلامي، نحن في مرحلة ما أقنعنا لجنة مشتركة بيننا وبين حزب المؤتمر الوطني بهذه الصيغة في العام 2000 ولكن للأسف لم يؤخذ بها في اتفاق السلام. مسؤولون في الأممالمتحدة ومراكز بحث يرون أن قضية منطقة أبيي ستكون مصدر نزاع دامٍ بين الشمال والجنوب مثل كشمير بين الهند وباكستان، هل تؤيد ذلك؟ - ليس منطقة أبيي وحدها. في الحدود بين الشمال والجنوب مناطق كثيرة أخرى يمكن أن تكون مصدر نزاع وقتال، وقضايا كثيرة أخرى عالقة... وهناك وهم بأنه يمكن حلها ثنائياً بين حزب المؤتمر الوطني و «الحركة الشعبية»، وهذا غير ممكن، لأن من يقطنون في هذه المناطق ليسوا من الحزبين ولهم رأيهم في مصالحهم المعيشية، وهذا ما حدث في أبيي. فالشريكان ذهبا إلى التحكيم الدولي، وقال التحكيم كلمته ورحب حزب المؤتمر الوطني بذلك، لكن أهل المنطقة كان لهم رأي آخر. فاللجوء إلى التحكيم الدولي في رأيي كان خطأ وينبغي مخاطبة الأطراف المعنيين في أبيي وإشراكها في قضايا حياتها ومصالحها وخلق آلية أخرى للتعامل مع هذه المشاكل. ما هو مقترحكم لحل النزاع المحتمل في منطقة أبيي، خصوصاً أن قبيلة المسرية العربية ترفض تطبيق نتائج التحكيم الدولي ما يرشح المنطقة للاشتعال؟ - اقترحنا عقد مؤتمر لمواطني المنطقة يستند الى التراضي بين كل القبائل الرعوية التي تعيش في مناطق التجاور ما بين الشمال والجنوب (تعيش أكثر شهور السنة جنوب الحد الفاصل بين الشمال والجنوب) وهؤلاء لا يمكن أن يخضعوا لأي تقسيمات سياسية. نعم، هناك حدود رسمية، ولكن هناك حدود قبلية، ولا بد من احترام هذه الحدود على أساس التراضي، وأن تقبل بذلك الجهات الحاكمة في الشمال والجنوب، والمهم إيجاد آلية مختلفة لأن هناك طرفاً لديه مصالح حياتية حيوية لا يمكن أن يتخلى عنها. هناك من يعتقد أن انفصال الجنوب سيكون مؤامرة أجنبية لتمزيق البلاد؟ - لا اعتقد ذلك، فهناك من يريدون مشاكل من اجل المشاكل، ولكن بوجود مصالح متضاربة يجب التصدي لها لكي لا تؤدي إلى اضطرابات، ولا توجد مجرد مؤامرات من اجل المؤامرات. صحيح ان أعداء السودان بصورة أو بأخرى يعملون لتدميره ولكن المهم ألا نترك لهم النوافذ بأسلوب جاد وقومي عبر التصدي لمشاكلنا، ولكن، إن لم يحدث ذلك ووقع الانفصال فسيكون محطة من محطات المواجهات، لأنه في اليوم التالي من الانفصال ستتشكل المناطق الممتدة على الحدود الجديدة بين الشمال والجنوب مثلما تتشكل المناطق الجنوبية جنوب الشمال. ستجد أن للشمال جنوبه وللجنوب شماله وهؤلاء سيكونون عرضة للمواجهات ما لم يحدث تراض لحل المشاكل العالقة التي كان من المفترض معالجتها خلال الفترة الانتقالية. وحتى في حال جاء الاستفتاء بالوحدة، ينبغي إيجاد آليات للتصدي للقضايا وصوغ بروتوكول جديد يتعلق بنتائج ما بعد الاستفتاء، لأن الوحدة لا تكفي وحدها إن لم تحل المشاكل العالقة، وإلا تحولت إلى حرب أهلية، وإذا حدث انفصال فيجب حل هذه المشاكل لئلا تشكل سبب اقتتال بين دولتين. في ظل هذه الظروف هل تعتقد أن انفصال الجنوب إذا وقع عبر الاستفتاء سيكون سلساً؟ - المسرح الآن يعد لاستفتاء مختلف على نتائجه، وإذا لم يؤخذ بالعلاج الجذري فسيكون الموقف مدعاة إلى مواجهات مدمرة. أزمة دارفور ترى الحكومة أنها انحسرت واقتربت من طي ملفها، وأن المجتمع الدولي انصرف عنها ولو موقتاً للاهتمام باستفتاء الجنوب. ولكن، هناك توقعات بانفجارها إذا لم تحل ما قبل الاستفتاء؟ - لا اعتقد أن مشكلة دارفور مختفية فهي موجودة وصارت مرتبطة بما يحدث في الجنوب، والآن هناك اتهام من الحزب الحاكم ل «الحركة الشعبية» بأنها تدعم متمردي «حركة العدل والمساواة»، ما يعني ان قضية دارفور متداخلة مع الموقف الجنوبي في صورة مباشرة. ولا أرى انصرافاً دولياً عن مسألة دارفور، لكن الطريقة التي يعالج بها ملف دارفور الآن مسؤولة عن وصول عملية السلام إلى طريق مسدود، وفي السنوات السبع الماضية أُجريت لقاءات كثيرة جداً وعُقدت مؤتمرات وورش عمل وحلقات نقاش. هذه الأشياء كلها أفرزت وثيقة هايدلبرغ التي تشمل مطالب أهل دارفور المشروعة. مسألة دارفور في حاجة سريعة إلى إعلان مبادئ لحل القضية وإشراك فصائل دارفور الأساسية المسلحة والسياسية والمدنية، واصطحاب دول الجوار خصوصاً ليبيا وتشاد ومصر شركاء في عملية السلام. الحكومة طرحت أخيراً استراتيجية جديدة لحل أزمة دارفور تستند الى توطين الحل بدل تدويل الأزمة؟ - للأسف بعد الانتخابات الأخيرة بدل أن تكون النظرة الى قضية دارفور واسعة وتشخص الأزمة بطريقة صحيحة، لجأ النظام الحاكم إلى إستراتيجية تستند الى أن مطالب الإقليم الأمن والتنمية، لكن ذلك ينقصه حل سياسي، لأنه من دون تسوية سياسية لا يمكن معالجة قضايا الأمن والتنمية والخدمات، وأي جهود تتجاوز ذلك ستقود إلى مزيد من الاقتتال والنزاعات. الاستراتيجية الحكومية الجديدة تركز على استعادة ملف دارفور من الخارج وتحقيق السلام من الداخل، ألا ترى ذلك خطوة إلى الأمام؟ - الذي دفع للجوء إلى الخارج هو فشل الداخل، والنهج الجديد للحكومة أن هناك واقعاً أفرزته الانتخابات الأخيرة، وهذا تصور خاطئ للغاية، فما أفرزته الانتخابات هو حزب المؤتمر الوطني بل العناصر المتشددة في الحزب، وهذا يعني مزيداً من المواجهات. والحديث عن حل داخلي مجرد أمنية، والوضع في دارفور صار مدوّلاً من كل النواحي، وهناك أكثر من 20 قراراً من مجلس الأمن تتعلق بدارفور. السلطة ترى أن دارفور تشهد استقراراً أمنياً، وانحساراً لنشاط المتمردين، وأن الفرصة مواتية لتحقيق السلام؟ - في دارفور استقرار وهمي، فهناك مشاكل كبيرة جداً في الإقليم ولا بأس من تقديم خدمات للمواطنين والتخطيط للتنمية والحفاظ على الأمن، لكن ما لم يوجد حل سياسي سيصبح هذا الكلام نوعاً من الأمنيات. هل تتوقع حرباً بالوكالة في دارفور في حال انفصال الجنوب، حيث تدعم الخرطوم المتمردين على حكومة الجنوب وفي المقابل تدعم جوبا متمردي دارفور؟ - إذا حدث انفصال عدائي للجنوب فسيكون هم الكيان الشمالي والجنوبي أن يخلقا لبعضهما بعضاً مشاكل مختلفة، ومن الصعب حسم المشاكل في دارفور قبل الاستفتاء، وأي حديث عن اقتراب تسوية أزمة دارفور أمنية لا يسندها واقع. والإقليم الآن ابعد ما يكون عن حل، وعلى رغم ذلك يمكن إيجاد حل ولكن بذهنية مختلفة وبسياسات أخرى نسميها «الحوكمة البديلة» كأسلوب بديل لسياسات حزب المؤتمر الوطني الحاكم الخاطئة. وترمي «الحكومة البديلة» إلى تبني سياسات قومية تنطلق من تشخيص حقيقي للمشاكل ثم وصفة حاسمة، وما لم يحدث ذلك في رأينا لن تعالج مشكلة دارفور قبل الاستفتاء وستتعقد بعد الاستفتاء، خصوصاً إذا وقع خلاف على نتائج الاستفتاء أياً كانت تلك النتائج. هل تعتقد أن المرحلة المقبلة هي الأخطر في تاريخ السودان منذ استقلاله؟ - نعم، هي الأخطر منذ تكوينه كله وليس استقلاله في 1956، لأن الشهور المقبلة ستحدد أن يكون السودان أو لا يكون، فإذا حدث انفصال عدائي للجنوب فستتدهور الأوضاع في البلاد وستتعقد أزمة دارفور كثيراً، وإذا لم تحسم القضايا العالقة فإن الانفصال سيكون محطة من محطات المواجهات وليس محطة نهائية لحل المشاكل بين الشمال والجنوب. في حال انفصال الجنوب من يتحمل المسؤولية؟ - النتائج الحالية للأوضاع في البلاد هي حصيلة العشرين عاماً الماضية من حكم الإسلاميين الذين وصلوا إلى السلطة عبر انقلاب عسكري على نظام ديموقراطي منتخب. فمشكلة الجنوب لم تبدأ في العهد الحالي ولكن لم يكن هناك تقرير مصير ولا تدويل، وكانت المشكلة سودانية محضة، حلها في مشاركة عادلة في السلطة واقتسام الثروة واستثناء من الأحكام الإسلامية، وكان هذا ممكناً من دون تدخل أجنبي، وللأسف الشديد، فإن سياسات الحكومة هي المسؤولة عن تحويل القضية من مشكلة داخلية إلى مشكلة دينية والى مواجهة جهادية عبّأت الأمة المسيحية في اتجاه مضاد أدى إلى المطالبة بتقرير المصير، والأمر ذاته في دارفور: كانت هناك أربع قضايا قديمة تشمل فجوة التنمية والصراع على الموارد ما بين المزارعين والرعاة والصراعات القبلية والنهب المسلح، هذه كانت مشاكل دارفور فقد كانت محلية ويمكن احتواؤها، غير أن سياسات نظام الحكم أوجدت أربع مسائل جديدة لم تكن موجودة تشمل إثنية مسيسة وأحزاباً تحمل السلاح ضد الحكومة الاتحادية ومأساة إنسانية بسبب النزاع والمواجهات بين القوات الحكومية والفصائل المسلحة، وأفرز ذلك مخيمات النازحين واللاجئين وتدويل الأزمة. عندما حملك نظام الرئيس عمر البشير إلى خارج السلطة في 1989 عبر انقلاب عسكري، هل كنت تتوقع أن يصل السودان إلى هذه المرحلة؟ - أبداً، كنت اعتقد ان لدى السودان فرصاً كبيرة لمعالجة قضاياه، فبالنسبة الى الجنوب اتفقنا مع «الحركة الشعبية» على وقف النار وعقد مؤتمر قومي دستوري في أيلول 1989 لحل مشكلة الجنوب في إطار سوداني، وفي دارفور حددنا المشاكل وتم الاتفاق على مؤتمر أساسي في دارفور في 30 حزيران (يونيو) 1989 وكانت المشكلة ستحل في إطار محلي، وللأسف المشروعان أجهضهما انقلاب البشير الذي سعى إلى حل القضيتين ولكنه عقّدهما ودوّلهما. بعد 46 سنة من العمل السياسي هل أنت مهيأ للعيش في نصف دولة في حال انفصال الجنوب عبر الاستفتاء؟ - دعونا نتفاءل. نحن نبحث عن آفاق جديدة وندرس كونفيدرالية عربية وأخرى أفريقية، ولا يزال أمامنا الكثير.