لأولئك الذين يرزحون تحت وطأة الفقر، لا تمثل الأهداف الإنمائية للألفية مجرد أهداف نظرية أو طموحات مجردة، بل إنها مهدت سبلاً عملية لعيش حياة أفضل، حياة توفر إمكانية الحصول على قدر كافٍ من الطعام والدخل، وعلى الخدمات الأساسية تعليماً وصحة، ومياهاً نقية ونظام صرف صحي نظيفاً، وكذلك يسهل فيها تمكين المرأة. فتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية يوفر حياة أفضل لمليارات الناس. وهي أهداف ممكنة التحقيق إذا تم تبني مجموعة السياسات التي خضعت للتجربة والاختبار، وتمت مواءمتها وفق السياقات لكفالة إحراز التقدم نحو بلوغ تلك الأهداف. وإذ استند برنامج الأممالمتحدة الإنمائي على دراسات مستمدة من خمسين بلداً سعت للوقوف على التدخلات الناجعة والمعوقات المشتركة الحائلة دون إحراز التقدم، فقد أكمل البرنامج تقويماً دولياً لتحديد المجالات الواجب التركيز عليها بغية تحقيق الأهداف الإنمائية للألفية، وحُدِّدت ثمانية مجالات للعمل: أولاً: أهمية التنمية. فيجب أن تمتلك البلدان الحريصة على تحقيق تلك الأهداف استراتيجيات إنمائية تستند إلى توافق آراء وطني واسع النطاق؛ ومفيد للغاية أن تصبح مؤسسات البلد متفاعلة في استجابتها، وخاضعة للمساءلة، وأن تمتلك القدرة على تنفيذ السياسات والبرامج المعنية بالأهداف. ويمكن شركاء التنمية الدوليين تقديم المساعدة، بدعم مناهج التخطيط التي تعتمد وجهات نظر الفقراء والمهمّشين، وبدعم سبل تعزيز القدرات المطلوبة لتعبئة الموارد، وصنع القرارات المستندة إلى الدلائل، وتقديم الخدمات. ثانياً: ضرورة إيجاد عدد أكبر من نماذج النمو. فالأدلة تشير إلى أن التخفيضات السريعة في الفقر والجوع تأتي نتيجة للنمو الاقتصادي الذي يولد فرصاً للعمل تركز خصوصاً على الزراعة والتنمية الريفية حيث تعتمد أعداد كبيرة في سبل عيشها على الأراضي الزراعية. وفي عالم آخذ في النمو، يعتمد 2.5 مليار شخص في معيشتهم على الزراعة؛ ومن ثم، فتعزيز الإنتاج الزراعي يمكنه سريعاً أن يقلل معدلات الفقر ويحسّن مستوى الأمن الغذائي. وليصبح المزارعون أكثر إنتاجية، فإنهم بحاجة الى نوعية أفضل من المخصبات والبذور، ولخدمات الإرشاد الزراعي، وحيازة مضمونة للأراضي، وإمكانية النفاذ إلى الأسواق. وتقدم غانا مثالاً جيداً على ما يمكن عمله: فقد نجحت في رفع حجم إنتاجها الغذائي بنسبة أربعين في المئة عبر برنامج يوفر الدعم للمخصبات على المستوى الوطني، ما ساهم بدوره في خفض معدلات الجوع بنسبة تسعة في المئة بين 2003 و2005. وتعزيز إنتاج المَزارِع يقتضي إدخال التحسينات على البنية التحتية في الريف، ومن المتوقع أن تساعد النتائج التي خلصت إليها جولة الدوحة لمنظمة التجارة العالمية في دعم مصالح الفقراء والبلدان الفقيرة التي تعتمد على الزراعة. لقد شهدت العقود الأخيرة تراجعاً حاداً في نصيب القطاع الزراعي من المساعدة الإنمائية الرسمية، وكان اتفاق مجموعة الثمانية التي عقدت قمتها في آكيلا، العام المنصرم، للاستثمار في الأمن الغذائي العالمي بمثابة خطوة إيجابية لعكس مسار هذا التراجع. ثالثاً: تحسين فرص الفتيات والنساء. يشكل هذا المجال قوة دفع هائلة للتقدم لتحقيق الأهداف الإنمائية جميعها؛ إذ تشير الدلائل إلى أن أطفال النساء اللواتي يحصلن على قدر من التعليم الرسمي يُرجح أن يبقوا على قيد الحياة حتى سن الخامسة، وأن يحصلوا على غذاء كافٍ ويتلقوا التحصينات الأساسية ضد الأمراض وأن يتم قيدهم في المدارس. ففي فيتنام، يصل معدل وفيات الأطفال إلى 27 حالة لكل ألف مولود حي، وذلك لأطفال الأمهات اللواتي حصلن على التعليم الابتدائي، فيما يصل معدل وفيات الأطفال الذين لم تحصل أمهاتهم على أي تعليم إلى 66 حالة لكل ألف مولود حي. وعموماً، يجب أن يتصدر تمكين النساء والفتيات قائمة الأوليات، بما يشمل تدابير تخفف من عبء الأنشطة المنزلية وتمنح نطاقاً أوسع للتمكين الاقتصادي والسياسي. وتعالج بعض البلدان هذه القضية بتبني نظام الحصص لتمثيل المرأة (الكوتا)، وتضرب رواندا مثالاً لافتاً للنظر في هذا المجال حيث تصل نسبة البرلمانيات إلى أعلى نسبها في العالم؛ إذ تفوق نسبتهن في البرلمان ال50 في المئة، وتصل إلى 35 في المئة في مجلس الشيوخ و36 في المئة في مجلس الوزراء. رابعاً: ضرورة الاستثمار في الصحة، والتعليم، والمياه النظيفة، والصرف الصحي، وإعداد الكوادر المهنية المؤهلة لإدارة هذه الخدمات. فقد تم تحقيق مكاسب سريعة في مجالي التعليم والرعاية الصحية في البلدان التي خصصت قدراً كافياً من الاستثمارات العامة لهذين المجالين الحيويين، والتي رافقها إلغاء للرسوم. فمثلاً، شهدت بلدان كإثيوبيا وغانا وكينيا وموزمبيق وملاوي ونيبال وتنزانيا طفرة في الالتحاق بالمدارس الابتدائية بعد إلغاء الرسوم المدرسية. وساهمت الشراكات العالمية الجديدة في رفع نسب التحصين الجماعي ضد الأمراض، وتوزيع ناموسيات الأسرّة للوقاية من الملاريا، وتوافر العقاقير المضادة لفيروسات النسخ العكسي للمصابين بفيروس نقص المناعة البشرية والإيدز، وضمان إشراف أطقم طبية مؤهلة على الولادات. فمثلاً، حصل 700 مليون طفل حول العالم على اللقاح ضد الحصبة بين 2000 و2008، ما أدى إلى انخفاض نسبة الوفيات التي تسببها بما يعادل 68 في المئة. وتدخلات كهذه أثبتت مدى نجاعتها؛ ويجب الآن أن تتضافر جهودنا لتعميمها على نطاق واسع وضمان استدامة المكاسب المحققة، حتى إبان التراجع الاقتصادي. خامساً: ضرورة الارتقاء بمستوى الحماية الاجتماعية وفرص العمل. فبرامج التحويل النقدي ك «بولسا فاميليا» في البرازيل، و «أوبورتونيدادس» في المكسيك، أدت إلى رفع معدلات التمدرُس، وخفض عمالة الأطفال، وتحققت هذه النجاحات بفضل المحفزات النقدية التي تُقدّم لقاء التمدرس. ولا ينبغي النظر الى الحماية الاجتماعية كاستنزاف لموازنة أي من الدول، بل أن تُعد استثماراً مهمّاً في بناء القوة المرنة اللازمة للتعامل مع الصدمات الحاضرة والمستقبلية، وصون المكاسب الإنمائية التي تحققت بجهد جهيد. سادساً: التوسع في طرق الحصول على الطاقة، وفي إمكانية تحقيق التنمية القائمة على استخدام نسب منخفضة من الكربون. فلهذا تأثير مضاعف في بلوغ الأهداف الإنمائية؛ إذ ترفع حجم الإنتاجية، وتقلل عدد الوفيات الناتجة من استنشاق انبعاث الكربون، وتنير المنازل والمدارس والمستشفيات، وتحرر النساء والفتيات من الأعمال المنزلية التي تستنفد وقتهن، كطحن الحبوب. ومثلاً، أدى التوسع في الحصول على الطاقة في بوركينا فاسو وغانا ومالي والسنغال إلى تأمين فرص جديدة مولدة للدخل للنساء، وفي الوقت ذاته إلى تخفيض الوقت الذي كن يستغرقنه في جمع خشب الوقود والمياه وباقي الأعمال المنزلية. وفي عصر مقيّد بتقليل استعمال الكربون، يعتبر النمو القائم على تقليص بصمة الكربون أمراً حيويّاً لجميع البلدان. ولتحقيق ذلك، من الضروري إبرام اتفاقات معنية بالمناخ - من شأنها توليد قدر كبير من التمويل لوضع حلول للحصول على الطاقة وتحقيق التنمية باستخدام نسبة منخفضة من الكربون، كما يجب ألا يُسمح لهذه الاتفاقات بالسقوط من قائمة الأوليات الدولية. سابعاً: تحسين تعبئة الموارد المحلية حاسم لتسريع التقدم لتحقيق الأهداف الإنمائية بما فيها تحسين جباية الضرائب وتوسيع القاعدة الضريبية. كما ينبغي التصرف في الموارد على نحو جيد. فعلى البلدان أن تقوّم وتعدّل موازنتها دورياً لتعظيم العوائد التي تجلبها استثماراتها للأموال العامة. ثامناً: ضرورة وفاء المجتمع الدولي بالتزاماته بتقديم المساعدات الإنمائية وضمان سريانها في شكل متوقع وتحسين مدى فاعليتها. وقد تكون المعونة الموجهة في شكل جيد حافزاً لبلوغ الأهداف الإنمائية، ولمساعدة البلدان على بناء القدرات ووضع البرامج اللازمة لجذب الاستثمار الخاص وتمويل تغير المناخ. إن نسبة العجز بين توقعات تقديم المساعدة الإنمائية لعام 2010 والوعود التي قُدِّمت في اجتماع مجموعة الثماني في جلين ايغلز في 2005، تقارب 0.05 بالمئة من مجموع الدخل القومي الإجمالي للبلدان المتقدمة. ويمكن، بل يجب، سد الفجوة، حتى في هذه الأوقات التي تمثل تحدياً. بعض البلدان تفي بالتزاماتها، بيد أن البعض الآخر لا يقوم بذلك. ومن المهم أن نحتفي بما تم إحرازه من تقدم نحو تحقيق الأهداف الإنمائية. فمثلاً، منذ 1991، تمكنت تنزانيا من رفع معدل الالتحاق بالمدارس الابتدائية بما يفوق 90 في المئة؛ وخفضت جنوب أفريقيا نسبة الذين لا يحصلون على مياه صالحة للشرب إلى النصف؛ كما انخفضت معدلات الفقر في مصر إلى النصف منذ 1999. ونحن الآن في مرحلة يجب ألا نستسلم فيها إلى اليأس أمام العقبات الحائلة دون تحقيق الأهداف الإنمائية، أو أن نسعى إلى الحد من طموحنا في تحقيقها، جميعاً وفي شكل كامل. الركود العالمي، وأزمتا الغذاء والوقود في السنوات الأخيرة، وتحديات تغير المناخ والكوارث الطبيعية، كلها أدت بصفة عامة إلى تعقيد مسيرة التقدم نحو 2015، ولكنها لا تجعل الأهداف الإنمائية مستحيلة المنال، إذا عقدنا العزم جميعاً على رغبتنا في تحقيقها. وبلوغ الأهداف يعني توفير حياة أفضل للفقراء والمستضعفين في جميع أنحاء العالم، والقرارات التي تصنعها الآن بلداننا ومجتمعاتنا ومنظماتنا قرارات مصيرية لتحقيق أهداف الألفية. * مديرة برنامج الأممالمتحدة الإنمائي ورئيسة الوزراء السابقة لنيوزيلندا.