«آه لو كانت للبشر انانية المدرعات والأسلحة والأجهزة الميكانيكية، فهي وحدها التي ترفض الصبر على الجوع والعطش. وهي في هذا المجال تبقى مصمخة الآذان في وجه كل الحجج مهما كانت حججاً قوية... فما جدوى تذكيرها بذكريات ماضيها المجيد؟ انها لا تؤمن بالزعيم ولا تخشى هراوات رجال الشرطة. وإن انت لم تهتم بها وبجوعها او عطشها، فلن تبدي اي غضب ولن يظهر عندها اي تفهم للأمر. إنها تصدأ بكل بساطة. تصدأ لا اكثر ولا أقل. في بلادنا، يمكن القول، انها هي التي لا تجد اقل صعوبة في الحفاظ على كرامتها». ترد هذه السطور في واحد من اجمل وأقوى النصوص التي كتبها المسرحي الألماني الكبير برتولد بريخت «حوار المفنيين». وهو نص كتبه صاحب «دائرة الطباشير القوقازية» و «الأم شجاعة»، في العام 1941، حين كان بدأ رحلة منفاه التي أبعدته عن وطنه ألمانيا، لتصل به الى الولاياتالمتحدة الأميركية، قبل ان يعود لاحقاً الى ألمانيا، إذ انتهت الحرب وهزم هتلر والنازيون الذين كانوا سبب سلوكه درب المنفى. «حوار المنفيين» هذا كتب في فنلندا في ذلك العام، حين كانت الحرب العالمية الثانية لا تزال في بداياتها، لكنه لن ينشر إلا بعد موت بريخت (في العام 1956). وحين كتب بريخت هذا النص، كانت اوضاع العالم لا تزال شديدة الغموض، في وقت تكتسح قوات هتلر اجزاء من ذلك العالم. ومن هنا لم يكن غريباً ان يختتم النص على رصد متشائم، حتى وإن كان مفتوحاً على اسئلة اكثر من انفتاحه على يقين سلبي، حيث فيما كان متحاوراً هذا النص، السيد كاله والسيد زيغل، يواصلان كلامهما كان «السيد آلة يلقي بثقله الكثيف على اليونان، وروزفلت يواصل قيامه بجولة انتخابية (في ربوع بلاده البعيدة)، وتشرشل والأسماء ينتظرون فرصة للإقلاع، اما السيد - الذي لا أعرف له اسماً - فإنه كان يرسل قواته إلى رومانيا لتحتلها، فيما الاتحاد السوفياتي صامت مستمراً في صمته». «إذاً، نحن هنا امام نص يرصد احوال العالم من خلال حوارات تدور بين منفيين. غير ان النص في تفاصيله يبدو اعمق من هذا وأبعد غوراً: فهو لا يكتفي بأن يقارب القضايا السياسية الراهنة، بل انه يغوص، حتى، في مسبباتها وخلفياتها الفكرية، يقول ان ما يحدث ليس مصادفة، وأن هيمنة غبي كهتلر على السلطة ليست امراً عارضاً. ولقول هذا كله، جمع بريخت في نصه غريبين هاربين من ألمانيا النازية يلتقيان، مصادفة، في مستودع سكة حديد في هلسنكي عاصمة فنلندا: الأول طويل عريض هو عالم الفيزياء زيغل. والثاني قصير سمين يدعى كاله. ومن الواضح منذ البداية ان بريخت جعل هذين الغريبين ينطقان معاً باسمه ويتحاوران على الشاكلة التي كان هو نفسه يطرح بها اسئلته على ذاته. اما الحوارات بينهما فإنها تطاول اموراً عدة، منها ما هو شخصي واجتماعي، ومنها ما هو فكري وسياسي وتاريخي. كان السيد كاله مرّ بمعسكر اعتقال نازي ما اكسبه خبرة بتصرفات الأسرى والجلادين سواء بسواء، اما زيغل فإنه مثقف عاطل من العمل. والاثنان كانا يعيشان في المنفى وضعاً سيئاً طالما ان القوات الألمانية كانت تقترب... وهذا الأمر، اذا كان يشكل ضغطاً عليهما، فإنه في الوقت نفسه حرّر لسانيهما، ما جعل حوارهما يتسم بكثير من الصراحة، والجرأة. والجرأة تطاول في ذلك الحوار كل شيء، بما في ذلك الفيلسوف هيغل، الذي له «قماشة مهرج كبير» من حيث ان منطقه، الذي يعاني من روماتيزم دائم، يبدو مسلياً جداً إذ يصف لنا كيف ان الثنائيات تتصادم، لكنها تبرر بعضها بعضاً في النهاية: وهكذا يجلس النظام والفوضى الى طاولة واحدة، مثلاً. وما هذا سوى نتيجة للديالكتيك الذي يجعل المرء في حاجة الى شيء من حس الفكاهة حتى يفهمه ويفهم مبتدعه. وعلى هذا النحو تمضي الآراء: «الإنسانية لا يمكنها ان تعيش من دون فوضى او فساد. النظام خطير والإنسانية غير مستعدة له بعد». فماذا عن المادية؟ ان السيد زيغل يبدي دهشته هنا لأن الكتاب اليساريين، الراغبين حقاً في ايصال الفلسفة والأخلاق الى اهل الطبقات السفلى، لا يهتمون ايّما اهتمام بوصف ملذات العيش (ملذات الفم على سبيل المثال)، وهكذا يغيب عن نصوصهم «وصف ولو بسيط لمختلف انواع الجبنة، او وصف ملموس وموحي على يد فنان حقيقي لطبق من البيض المقلي الجديد بهذا الاسم»، فلو وجد هذا الوصف ل «كان، من دون ريب، امراً من شأنه ان يساهم حقاً في تربية النفوس والعقول». فالحقيقة، يقول المتحاوران ان «كوباً جيداً من شراب البيض، لن يتناقض ابداً مع فلسفة المذهب الإنساني». ولأن النقاش يدور، حول ألمانيا بخاصة، كما حول الحرب، يتناول المتحاوران مسألة الحرب. فماذا عنها؟ «انه من الواضح ان السكان المدنيين يقفون عقبة مزعجة في وجه العمليات العسكرية. ومن اجل الاستخدام الأمثل للأسلحة الحديثة، من الضروري استبعاد الشعوب كلية، بل ان الأمر يستوجب اخلاء دائماً للسكان المدنيين لأن الحروب الحديثة تندلع كالزوبعة، ولا يمكن احداً ان يعرف في اي اتجاه ستسير «اما الخيار المنطقي فإنه في منتهى البساطة: إما ان نبيد السكان، وإما ان نعترف - آسفين - بأن الحرب مستحيلة...». على هذا النحو «الجدلي» تدور بقية الحوارات بين مثقف يلعب بمهارة ولا يسعى ابداً الى إخفاء تقنياته الحوارية المستخدمة بوفرة لمصطلحات البطولة والضرورة والأنانية، اي «كل ذلك الجنون الذي يقوم على مطالبة الإنسان بأن يكف عن كونه انساناً»، وبين عقل بسيط يصرخ فجأة «آه... ايها الصديق ها أنذا أقول لك انني سئمت الفضائل كلها، وأرفض ان اصبح بطلاً...». ثم إذ يصل حديث المتحاورين الى التربية الألمانية، يتنبه الاثنان الى ضرورة تعريف كلمة «ألماني» أولاً. فما الذي تعنيه هذه الكلمة، على ضوء استشراء الهتلرية النازية؟ «ان تكون ألمانياً، يقول احدهما للآخر، معناه ان تفعل الأمور حتى منتهاها، سواء تعلق الأمر بتشميع ارضية البيوت، او بإبادة الساميين جميعاً. في داخل كل ألماني هناك استاذ فلسفة يغط في نومه...». وهنا يقول كاله: «ان كل قول عن الكرامة، لا أجده ينطبق على مواطنينا الألمان، فهؤلاء هم من الطاعة بحيث يمكن تحويلهم فوراً الى ابطال وسادة. وبواسطة مفاهيم مثل الدم والأرض في الإمكان اقناعهم بأن الألماني له وحده الحق في بذل دمه من اجل الفوهرر. وأن الألماني وحده له الحق في ان ينتزع من كائن آخر، الأرض التي يمتلكها هذا الأخير...». ولسوف ينتهي الحوار بأن يقول كاله لزيغل: «لقد افهمتني، اذاً، انك تبحث عن وطن تكون فيه فضائل جذرية مثل الوطنية والظمأ الى الحرية والطيبة والتجرد، عائمة على سطح الأنانية والقسوة والزلفى... وميل الإنسان لأن يقول لوطنه في نهاية الأمر: تباً لك!...». إن برتولد بريخت (1898 - 1956) الذي كتب هذا النص، كان منفياً يشعر بالكثير من المرارة، ويشهد قيماً كبيرة وأساسية تنهار امام ناظريه بفعل الهجمة النازية على العالم وعلى كل ما هو انساني في هذا العالم، لكن بريخت كان واعياً في الوقت نفسه، ان ضعف القوى الخيرة أو تعثر خطواتها كان بدوره يساهم في الانتصارات النازية. وفي هذا الإطار، ما جوهر «حوار المنفيين» سوى تأكيد وتكثيف لعدد من الأفكار التي لطالما دق عبرها ناقوس الخطر، وملأ بها اعماله الكبيرة السابقة مثل «قديسة المسالخ جان» و «الأم» و «أوبرا القروش الثلاثة» و «حياة غاليلي» و «آرتورو أوي». [email protected]