عاد لبنان إلى دائرة الضوء التي لم يغادرها في الأصل على مدى نصف قرن، لكن هذه المرة من زوايا مختلفة، والأمر يتعلق بالتصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة سعد الحريري والتي تضمنت تراجعاً عن مواقف سابقة من حيث اتهام سورية بالوقوف وراء اغتيال والده الرئيس رفيق الحريري، وكذلك التعرض –لأول مرة- إلى «شهود الزور» في هذه العملية مما يشكل مؤشراً لواقع جديد في التعاطي بين لبنان وسورية من جهة، وإعادة رسم هيكلية سياسية لمختلف القوى المتواجدة على الساحة اللبنانية. وفي استعراض خاطف لبعض ما أطلقه الرئيس الحريري تتضح أهمية هذه التصريحات والتي فاجأت الكثيرين حتى أعضاء كتلته النيابية وقوله: «...في مرحلة ما اتهمنا سورية باغتيال الرئيس الشهيد، وهذا كان اتهاماً سياسياً، وهذا الاتهام السياسي انتهي وهناك محكمة موجودة وتقوم بعملها». أما المفاجأة الأخرى فكانت في تناوله ولأول مرة ما يحُكى عن شهود الزور حيث قال... «هناك أشخاص ضللوا التحقيق وهؤلاء ألحقوا الأذى بسورية ولبنان وألحقوا الأذى بنا كعائلة الرئيس الشهيد ... وشهود الزور هؤلاء خربوا العلاقة بين البلدين وسيسوا الاغتيال ونحن في لبنان نتعامل مع الأمر قضائياً». ومنذ أن أدلى الحريري بهذه التصريحات وهي موضع العديد من التفسيرات والاستنتاجات المختلفة، لكن الأمر المؤكد أنها تنطوي على متغيرات كبيرة، على رغم أنه كانت للبعض ملاحظات على الأسلوب في إبداء هذه التصريحات. وفي هذا السياق يسجل تعليق رئيس مجلس النواب نبيه بري، إذ وصف تصريحات الحريري «بأنها «دفرسوار» وتشكل نافذة على الحقيقة». ومعروف عن بري إطلاق المواقف عبر أسلوب مميز، فهو صاحب الشعار الشهير «س.س» والذي قصد به التفاهم الذي نشأ بين المملكة العربية السعودية وسورية. ولمن لا يعرف أو يتذكر معنى «الدفرسوار» نستحضر المعلومات التالية: في حرب أكتوبر 1973 وبعد عبور القوات المصرية قناة السويس ونجاحها في تدمير خط بارليف الشهير بتحصيناته وفيما بدا أن الموقف العسكري العام هو لمصلحة الجيش المصري، وفي سياق المساعي الدولية التي كانت تهدف إلى وقف لإطلاق النار، تمكنت القوات الإسرائيلية من إحداث ثغرة عسكرية في الدفرسوار أدت إلى قلب الكثير من المعطيات ومنحت إسرائيل فرصة للمناورة وتحقيق المكاسب، وانتهت الأمور إلى ما بات معروفاً في حينه. ومن هذا التوصيف يتضح أن ما رمى إليه رئيس مجلس النواب من وصفه بتصريحات رئيس الحكومة بأنها «دفرسوار» أنها تؤسس لواقع جديد في لبنان. وبانتظار بلورة المواقف لبنانياً وإقليمياً، تطالعنا الوقائع الآتية: إن الحروب الأهلية والتي اندلعت في منتصف سبعينات القرن الماضي انتهت إلى «اتفاق الطائف» في عام 1990. كذلك أدت أحداث أيار (مايو) 2008 إلى «اتفاق الدوحة». والآن يطرح السؤال: ماذا بعد أحداث برج أبي حيدر التي وقعت بين عناصر من «حزب الله» وأخرى من «جمعية المشاريع الخيرية الإسلامية»، وكادت تتطور إلى ما هو أسوأ بكثير لولا تدخل قوى الجيش وسيطرتها على أحياء مختلفة من بيروت، إضافة إلى اتصالات القوى الفاعلة على الأرض علماً بأن الذين تقاتلوا ينتمون إلى فريق واحد. وبالعودة إلى المواقف المستجدة للرئيس الحريري فهو بتصريحاته هذه فصل التحقيق في اغتيال والده وفي الاغتيالات الأخرى بين الجانب الشخصي والجانب القضائي. ويسجل في هذا الإطار إعلان بعض «الفصائل اللبنانية» تغطية «التراجع السياسي» جراء المواقف المستجدة لسعد الحريري، لذا لوحظ بعض الإرباك في مواقف بعض الأحزاب والتيارات من آراء رئيس الحكومة، وعملت إجازة عيد الفطر على تأجيل التفاعلات الداخلية للآراء الجديدة لسعد الحريري، في حين أن بعض المراقبين أدرجوا هذه المواقف تحت عنوان عريض وهو القمة الثلاثية التي عقدت الشهر الفائت في القصر الجمهوري في بعبدا بين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس بشار الأسد والرئيس ميشال سليمان. على أن الوضع الذي أدت وستؤدي إليه المواقف الحريرية الجديدة يتطلب استخدام مفردات جديدة وقاموس جديد في التخاطب بين مختلف الأفرقاء، لأن مفردات الماضي لم تعد تصلح للمرحلة الآتية. وفي سياق متصل تجب الإشارة إلى أن الزعيم اللبناني وليد جنبلاط كان أول من استشعر الآتي من التطورات عندما أعلن في وقت مبكر انسحابه من تجمع 14 آذار ناقضاً كل المواقف السابقة ومنها النزاع المرير مع سورية، وبات الآن يلعب دوراً وسطياً بعدما تمكن من بناء علاقات جيدة ومتينة مع الرئيس بشار الأسد. وإضافة إلى الجانب المتصل بتعزيز العلاقات بين لبنان وسورية فان تجارب اللبنانيين علمتهم أن يكونوا حذرين دوماً من بعض التطورات الإقليمية وفي طليعة ذلك تداعيات الصراع العربي - الإسرائيلي. لذا فان هذا العامل حتم ويحتم التنسيق بين مختلف الأفرقاء لمواجهة ما هو آت من نجاح أو من فشل المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين. وقد تبلغ الرئيس الحريري من الملك عبدالله الثاني رسالة حول مشاركته في هذه المحادثات في واشنطن ولقائه الرئيس باراك أوباما عاطفاً عليها الرغبة الأكيدة للرئيس الأميركي في إنجاح هذه المفاوضات لكن كل التحليلات والفرضيات لا تدع لبنان يختار بين السيء والأفضل، بل خياره سيكون بين السيء والأكثر سوءاً خصوصاً في ما يتصل بتوطين الفلسطينيين وإسقاط حق العودة حيث يتضح يوماً بعد يوم أنه لم يعد يكفي أن يقول لبنان إنه ضد التوطين كي لا يحدث هذا الأمر، بل إن كافة الطروحات الإسرائيلية تصر على قيام «دولة يهودية»، مقابل «الدولة الفلسطينية»، وتعبير الدولة اليهودية لا يقيم وزناً للعرق العربي والفلسطيني على الإطلاق. وفي هذا السياق يتذكر بعض المحللين المخضرمين أن لبنان كان الساحة المستباحة لتداعيات الصراع العربي - الإسرائيلي منذ توقيع اتفاقات كمب ديفيد عام 1977 بين مصر وإسرائيل... وحتى اليوم. إن هذه المرحلة تطرح الكثير من التساؤلات حول الآتي من التطورات على لبنان والمنطقة، وكيف يجب مواجهة استحقاقاته المراحل المقبلة. على الصعيد الثنائي اللبناني- السوري تؤكد التطورات الأخيرة أن الطروحات التي يتمسك بها الرئيس بشار الأسد هي التي أكدت «صوابيتها» في المواجهة الكبيرة بين دول «محور الممانعة» والقوى الأخرى. وفي هذا المجال يردد الرئيس السوري مقولة «إن خيار المقاومة هو أقل كلفة من أي خيار آخر». كما أنه يلاحظ «أن الولاياتالمتحدة وخلال جولات التشاور لاستعادة العلاقات بين دمشقوواشنطن تقوم على أساس المطالبة الأميركية لنا بتحقيق المطالب لكن ما من مرة قالت لنا أميركا ما الذي ستعطينا إياه، وعليه فالعلاقات لا تستوي إلا بالأخذ والعطاء». وبعد... * ان التصريحات التي أدلى بها الرئيس سعد الحريري تمثل منطلقاً بالغ الأهمية على الصعيد اللبناني الداخلي في توجه جديد سيشهد أكبر عملية خلط للأوراق بين التحالفات في الداخل وحيال المنطقة. وهذه المواقف سوف تؤسس لبناء نوع جديد من العلاقات بين الحريري والأمين العام ل «حزب الله» السيد حسن نصرالله بعد المساجلات الأخيرة والشهيرة والتي وضع رئيس الحكومة نقطة نهائية على السطر بأنه لن يعود إليها. ويلاحظ أن نواب «حزب الله» آثروا عدم التعليق على تصريحات الحريري، أقله حتى كتابة هذه السطور. * ان ما أقدم عليه «ولي الدم» سعد الحريري لم يكن ولن يكون باستطاعة أي شخص أو طرف آخر أن يقدم عليه، ويدعم طرحه الجديد بما يلي ... إن عدم الاستقرار في لبنان هو عدم استقرار في سورية والعكس صحيح لذا فإن أمن سورية من أمن لبنان وأمن لبنان من أمن سورية. أنا لا أقول هذا الكلام اليوم إلا لأنني أريد أن يعرف الناس وأن نوضح لهم كيف يفكر سعد الحريري وكيف ينظر إلى الأمور بعد كل هذه السنوات... وعلينا أن نحدد ماذا نريد من سورية وماذا تريد منا... فنتعلم من الماضي ونأخذ منه العبر لنبني على مستقبل يرتاح فيه الشعب اللبناني والشعب السوري... ومن هذا المنطلق كانت الحوارات التي تجرى مع الرئيس الأسد. هذا كلام لا تنقصه الجرأة، لكن المواطن اللبناني يسأل إلى أين يُساق من حين لآخر ومن محنة إلى محنة ومن أزمة إلى أخرى، وهل حان موعد استراحة هذا المحارب بعد طول عراك؟ والأهم: هل وضعت هذه التصريحات حداً نهائياً لما سيكشف عنه القرار الظني للمحكمة الدولية؟ بخاصة أن واشنطن أكدت تمسكها بالمحكمة وبما سيصدر عنها من قرارات! «سعد حريري جديد» للبنان جديد أم ماذا؟ * كاتب وإعلامي لبناني [email protected]