يتوجه الناخبون الأتراك، في 12 أيلول (سبتمبر) الجاري، إلى صناديق الاقتراع ليدلوا بأصواتهم في استفتاء على حزمة التعديلات الدستورية التي تقدم بها حزب العدالة والتنمية الحاكم بقيادة رجب طيب أردوغان. وتتضمن التعديلات بمجموعها مزيداً من تفكيك الوصاية العسكرية والقضائية على السياسة، وتوسيعاً في هامش الحقوق والحريات المدنية الفردية والجماعية. من ذلك مثلاً تغيير بنية المحكمة الدستورية التي كانت تمارس نوعاً من الرقابة القانونية المتشددة على الحياة السياسية، فتبطل قرارات صادرة من البرلمان وتحظر نشاط أحزاب لها تمثيل اجتماعي وازن وكتل برلمانية، ويدلي أفرادها، بخلاف حيادهم المفترض، بتصريحات سياسية. ومنها فتح الباب أمام محاكمة قادة الانقلابات العسكرية أو الضالعين في محاولات انقلابية أمام المحاكم المدنية، ونزع حصانتهم الموروثة منذ 1960، تاريخ أول انقلاب عسكري. ومنها ما يضع حداً لوضع الأفراد تحت الرقابة الأمنية – العسكرية و "تفييشهم" وما يترتب على ذلك من إجراءات الحرمان من الوظيفة العامة أو حظر السفر خارج البلاد بلا قرار قضائي. ومنها ما يتعلق بالتمييز الإيجابي لمصلحة المرأة، ومنح موظفي القطاع العام الحق في التعاقد الجماعي مع الدولة. وإذا كانت الوجهة الإجمالية للتعديلات تعني مزيداً من الانفتاح الديموقراطي وتكريساً لمبدأ الفصل بين السلطات، فهي أيضاً جزء من المعايير الأوروبية لقبول عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وكان مشروع التعديلات قد مر بمصفاتين تمهيديتين قبل طرحه للاستفتاء، فنوقش في البرلمان على مدى أكثر من شهر في جلسات صاخبة من التجاذبات. وإذ لم يتوصل البرلمان إلى توافق حولها، تقرر الاحتكام إلى رأي الشعب مباشرةً. فما كان من حزب الشعب الجمهوري المعارض إلا أن اشتكى إلى المحكمة الدستورية في محاولة لقطع الطريق أمام الاستفتاء. لكن المحكمة الدستورية أقرت، بخلاف التوقعات، دستورية التعديلات المقترحة بعدما حذفت منها بعض الأحكام والفقرات. طيلة الشهرين الماضيين استنفر أنصار التعديلات وخصومها كل إمكاناتهم لإقناع ناخبيهم بالتصويت. فارتسم الانقسام حول الاستفتاء بما يتفق والانقسام التقليدي بين الحكم والمعارضة. حزب العدالة والتنمية الحاكم وحده، بين القوى الرئيسة، حض ناخبيه على التصويت لمصلحة حزمة التعديلات بصورة متسقة، في حين جنّد كل من حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية كل إمكاناتهم لمصلحة رفضها. أما حزب السلام والديموقراطية الممثل لأكراد البلاد فحض ناخبيه على المقاطعة، منسجماً في موقفه مع موقف عبدالله أوجلان والقيادة الميدانية لحزب العمال الكردستاني. وبرر الحزب الكردي موقفه بالقول إن التعديلات هذه لم تمنح الأكراد أي شيء. وتلقى التعديلات الدستورية المقترحة دعماً من التيار الليبرالي الديموقراطي وقسم من منظمات المجتمع المدني، إضافة إلى القاعدة الاجتماعية الفضفاضة لحزب العدالة والتنمية، في حين انضم اليسار التقليدي ذو التوجهات القومية – العلمانية إلى موقف حزب الشعب الجمهوري في رفض التعديلات. الواقع أن معارضي التعديلات لا يجدون ما يقولونه سلباً في التعديلات بذاتها، لكنهم يحرفون النقاش عنها نحو الطرف الذي تقدم بمشروع التعديلات. فقد ركزت دعاية كمال كلتشدار أوغلو، الزعيم الجديد لحزب الشعب الجمهوري، على أن الحزب الحاكم يريد الاستيلاء على كامل السلطة لتطبيق أجندته الإسلامية السرية، في محاولة منه لحشد كل خصوم الحزب الحاكم ضد التعديلات. بل إن معارضته لها بدت غير مقنعة حين ركز على ما لم تتضمنه، بالقول مثلاً: "هل تقضي هذه التعديلات على بطالة اليد العاملة؟ هل تُحَسِّن من مستوى معيشة الفلاحين؟". ولا يختلف موقف الحزب الكردي كثيراً بقوله إن التعديلات لن تمنح الأكراد أي حقوق أو لن ترفع عنهم المظالم. وهناك قسم من اليسار المعتدل اعتبر التعديلات غير كافية، مطالباً بتغيير الدستور الانقلابي للعام 1982 النافذ إلى اليوم، منظماً حملةً شعارها: "غير كافية ولكن نعم للتعديلات"، ومعبراً عن حس سياسي سليم لا يرفض القليل بذريعة المطالبة بما هو أكثر. الواقع أن أردوغان نفسه، ومعه كل أركان الحكومة والحزب، أكدوا دائماً في حملاتهم الترويجية أن التعديلات غير كافية، وأنها ستشكل، في حال إقرارها، مدخلاً لتغيير الدستور تغييراً شاملاً للتخلص من إرث دستور صاغه الانقلابيون قبل نحو ثلاثة عقود، ووعد رئيس الوزراء ناخبيه بأن 2011 سيكون عام الدستور المدني الجديد. ويُذكر أن أردوغان سبق ووعد ناخبيه بتغيير الدستور، قبيل انتخابات 2007 التي فاز فيها بنسبة 47 في المئة من أصوات الناخبين. وكان قد كلف لجنة من الخبراء بصياغة مشروع دستور مدني يطرح على جدول أعمال الحكومة والبرلمان الجديدين. لكن الكلام بقي حبراً على ورق ووضعت مسودة الدستور المدني التي انتهى الخبراء من إنجازها فبل انتخابات تموز (يوليو) 2007، على الرف. وتختلف التحليلات حول سبب استنكاف الحكومة عن تنفيذ وعدها، بين ناقدٍ يتهمها بالتحول إلى جزء من نظام الوصاية القائم، وبين متفهم لخضوعها لتوازنات قوى لا تسمح بطرح مشروع الدستور الجديد. لكن المؤكد أن توازنات القوى هذه متحركة، والوضع اليوم مواتٍ أكثر مما كان عليه قبل ثلاث سنوات. وقد كان لاختيار يوم الاستفتاء في 12 أيلول مغزىً أراده الحزب الحاكم حافزاً على حشد الجمهور لمصلحة التصويت بالموافقة على حزمة التعديلات. فهذا التاريخ يمثل في الذاكرة الجمعية التركية الانقلاب العسكري الأكثر بطشاً ودموية في تاريخ الجمهورية التركية. ففي الليلة الأولى للانقلاب العسكري المشؤوم زج بآلاف الشباب والمثقفين في أقبية التعذيب في ثكنات الجيش والمخابرات العسكرية. وحل الانقلابيون البرلمان والحكومة وسجنوا زعماء الأحزاب أو فرضوا عليهم الاقامة الجبرية، ثم منعوهم من مزاولة أي نشاط سياسي. وإذا كان الانقلابيون قد رفعوا شعار "الإسلام في خطر" معلنين عن استهدافهم لليسار بصورة رئيسية، فالتيارات الأخرى اليمينية القومية والإسلامية لم تنج من بطشهم. وفي 1982 وضعت الطغمة العسكرية بقيادة كنعان إيفرين دستوراً على مقاسها يؤبّد هيمنة الجيش على الحياة السياسية. من هنا رمزية 12 أيلول، للقول إن حزمة التعديلات هذه أول ضربة للدستور العسكري وتمهيد لاستبداله بدستور مدني يناسب الشوط الذي قطعته تركيا خلال ثلاثين عاماً. وتشير استطلاعات الرأي إلى شبه تكافؤ بين أنصار النعم وأنصار اللا (51 في المئة نعم، 49 في المئة لا). فإذا تطابقت النتائج الفعلية للاستفتاء مع هذه النتيجة التي جاء بها أحدث الاستطلاعات، فالمعنى أن دستور إيفرين سيبقى نافذاً كما هو إلى أجل غير مسمى.