بدا لافتاً أن تجد صالة عرض سينمائية أميركية شبه ممتلئة بجمهور جاء متابعاً لفيلم أوروبي، لم يسبقه كثير من المتابعات والاعلانات في وسائل الاعلام، غير بعض مقالات في دوريات ومواقع سينمائية متخصصة. ذلك ان الفيلم الفرنسي - الروسي المشترك «ذي كونسرت» أو «الحفل الموسيقي» جذب منذ بدء عروضه الاميركية الشهر الفائت اهتمام جمهور لم يعتد متابعة الافلام الاوروبية التي تبدو «بطيئة الايقاع» بحسب تراكم متابعته السينمائية القائمة على الانماط الهوليوودية المعروفة. وقد يكون للايقاع المتسارع لفيلم المخرج الروماني الاصل رادو ميهيليانو و «توابل» حكايته القائمة على كوميديا ساخرة من روسيا الشيوعية و «تضامن» مع يهود يعاقبهم النظام السوفياتي السابق، فضلاً عن جماليات العرض الموسيقي الدال عليه العنوان، اثره في وجود هذا التلقي الواسع نوعاً لفيلم لم يعرف عنه الكثير اميركياً، لا سيما في موسم العروض السينمائية الصيفية التي عادة ما تتجنب الافلام ذات القيم الفنية العالية. وفيلم «ذي كونسرت» الذي ادى بطولته الممثل الروسي ألكسي غوسكوف والنجمة الفرنسية ميلاني لوران (عازفة كمان منفرد قديرة) يعرض لحكاية تنبش في القهر الثقافي الذي كانت تمارسه السلطة السوفياتية على فنانين وموسيقيين ممن كانوا يتجرأون ويوجهون النقد لرموز السلطة اثناء وجودهم خارج البلاد، فقائد اوركسترا مسرح البولشوي الشهير المايسترو فيليبوف (غوسكوف) تنتهي مسيرته قبل ثلاثين عاماً، حين يرفض طرد الموسيقيين اليهود في الاوركسترا الذين انتقدوا السلطة، على رغم صدور أوامر من الكرملين تنص على ذلك، لكنه يظل مشدوداً الى حلم العودة الى باريس حتى وان تهاوت حياته وهيو يعيش سنواته الاخيرة في المكان ذاته: البولشوي وإن كان بعيداً عن الموسيقى بل في اجواء الخدمة الادارية الخانقة التي تقارب الوضاعة. وفي ثنايا لهفته التي تهز روحه شوقاً الى باريس نتعرف الى إشارات تتعلق بعازفة كمان قديرة شابة آن ماري (النجمة ميلاني لوران) التي تتولى سيدة باريسية (الممثلة ميو ميو) رعاية شؤونها وتحتفظ بسر ابوي العازفة الشابة. افتراضات ومنطق هناك مستويات في فيلم «الحفل الموسيقي» من شأنها أن تقلل من منطقية الافتراضات التي بنيت وفقها احداثه، فليس ثمة انتقالات جوهرية من مرحلة نهاية النظام السوفياتي، الى اليوم، فالمدير الفعلي للبولشوي ايفان غافريلوف (الممثل فاليري بارينوف) ما انفك شيوعياً يحمل علم مؤتمر مهم للحزب الشيوعي السوفياتي حتى في سفرته الى باريس مقدماً اياه للرفاق الفرنسيين، وإن بدا ببعد انساني متسامح. كما ظهر المسرح الروسي الشهير وكأنه مقبرة للمواهب الموسيقية الفذة حيث المايسترو يعمل منظفاً لأثاث المسرح، وهو ما يبدو خارج اي سياق منطقي، لا سيما ان البولشوي استعاد كثيراً من حيويته بعد فترة على سقوط الشيوعية، كما ان من الصعب تقبل ان تكون اوركسترا البولشوي تفككت وتناثر اعضاؤها، كي يأتي عرض المسرح الوطني الفرنسي للمايسترو المنسي، ويتحول سبباً لإعادة شمل الاوركسترا من جديد. لكن كل «غير المنطقي» هذا يتحول بحسب السيناريو الذي كتبه المخرج ذاته، والمشبع بالسخرية من ملامح الحياة الروسية اثناء السلطة الشيوعية وما بعدها، والاداء الحيوي لصديق المايسترو وعازف التشيللو ساشا غروسمان (الممثل ديمتري نزاروف)، ثم لاحقاً الحضور المرح لاعضاء الاوركسترا الآخرين: غجر ويهود وفوضيون يحملون صورهم الشخصية بأيديهم الى المطار حيث يفترش الارض اثنان من عصابات المافيا الروسية ويصدرون لاعضاء الاوركسترا جوازات سفر قبيل صعودهم الطائرة الى باريس، فيما يخاف شرطيان الاقتراب من مشهد التزوير «العلني» بعد تهديد حرس المافيا لهما. وفي أوقات عدة، ظهر فيلم «ذي كونسرت» الذي يعود انتاجه الى العام الماضي، وكأنه تهريج يقارب اللحظة التي انهارت بها الدولة السوفياتية وبعض «شقيقاتها» في أوروبا الشرقية الى حد ان المخرج رادو ميهيليانو ظهر وكأنه على وشك أن يفقد السيطرة على ايقاع فيلمه، لكنه استعاد «الهارموني» في تلك الفوضى، فمقابل السخرية من تهتك الحياة الروسية، كانت هناك السخرية من نمطية الفرنسيين سياسياً (الشيوعي الفرنسي القديم) وثقافياً (مدير المسرح الفرنسي) واجتماعياً (تردد غيلين وعازفة الكمان وبرود حياتهما). وعلى رغم ان «الحفل» حفل بمطبات كثيرة الا انه لم يحد كثيراً عن الطريق، وتحديداً عندما امسك باللحظة المصيرية (لقاء المايسترو مع عازفة الكمان وعجزه عن ابلاغها بسر انها ابنته)، وما ترتب عليها من تفاصيل متصاعدة وصولاً الى ذروة التعبير الجمالي، تقديم كونشرتو الكمان والاوركسترا لتشايكوفسكي، وفيه ادت ميلاني لوران، دورها كعازفة كمان منفرد باقتدار حد انها بدت مقنعة كعازفة يتطلب منها ذلك العمل تعبيراً جسدياً ونفسياً بارزاً، ومع الاتقان الذي خرجت به الاوركسترا من سباتها الممتد سنوات، ومع صورة المشهد السابق لقائدها وهو في المكان ذاته يقدم تشايكوفسكي لكن مع عازفة كمان هي في الحقيقة ام العازفة الشابة (ابنته) تلك الام التي قادتها مواقفها وزوجها الى المعتقلات القصية في سيبريا ووفاتها لاحقاً، لتتحول الطفلة وديعة عند الصديقة الفرنسية التي كانت ابلغت العازفة الشابة بالسر قبيل بدء الحفل الموسيقي. الكلاسيكية قمة تعبيرية عن هذه الذروة الجميلة، فاز «الحفل الموسيقي» بجائزة سيزار 2010 لأفضل موسيقى مكتوبة وأفضل صوت، وهو ما كان طبيعياً ومنسجماً مع جماليات الصوت والموسيقى من دون نسيان ايحاءات العمل الأخاذ (كونشرتو الكمان والاوركسترا) لتشايكوفسكي، فيما كان رشح لأربع جوائز اخرى لم يظفر بأي منها وهي: افضل فيلم، افضل سيناريو، افضل مونتاج، وافضل اخراج. نجاح الفيلم جاء في جعله الموسيقى الكلاسيكية جزءاً لا يتجزأ من ذاته كقيمة تعبيرية عن مشهد ثقافي وسياسي واجتماعي حتى في مبالغاته التي لم تكن ثقيلة على المشاهدين، الذين صفقوا تماهياً مع جمهور المسرح الباريسي وهو يصفق لاداء الاوركسترا الروسية وقائدها (والد العازفة الفرنسية المقتدرة).