ثمة مقاربتان بارزتان من شأنهما تحريك عجلة تأليف الحكومة في العراق. الأولى تفترض ان المواطنين العراقيين يولون الصدارة لقضايا مثل الامن والطبابة والخدمات، عوض النزاع الطائفي، وأن من الممكن تشكيل حكومة تجمع وزراءها رؤية مشتركة الى قضايا سياسية أساسية، عوض احتساب اعتبارات الهويات الطائفية الاثنية. وهذا النوع من الحكومات يعزز استقلال حكومة العراق عن محيطها الاقليمي المعادي. ويتماشى هذا التوجه مع الدستور أكثر من نظيره الداعي الى تمثيل الطوائف والاثنيات كلها في الحكومة. فالدستور لم ينص على مثل هذا التمثيل. والمقاربة الثانية هي أقرب الى الهدنة منها الى الحكم السديد. فهي تفترض استحالة أن تنهض قضايا مشتركة بأود حكومة واحدة جراء العجز عن تجاوز التوتر الطائفي والعرقي، وتدعو الى إدخال أكبر عدد من الأطراف تحت عباءة الحكومة. والمقاربة هذه تستوحي نماذج الديموقراطية «التوافقية» الغربية، وتتجه الى تقاسم السلطة في حكومة ضخمة العدد، على رأسها رئيس وزراء ضعيف. ولكن العراق يفتقر الى شروط انتهاج الديموقراطية التوافقية التي حددها المنظرون، وهي نظام سياسي متخفف من قضايا ثقيلة، وإجماع على قبول سياسة الغرف المغلقة، وتوفر وسائل بديلة للتعبير عن الارادة الشعبية، منها الاستفتاء، في ظل حكومة غير مرئية، والتماسك الداخلي للجماعات الممثلة في الحكم. ويبدو أن لا مفر من تمثيل الصدريين في الحكومة، إذا انتُهج نهج «الهدنة» في تشكيل الحكومة. فالهدنة تفترض تشكيل كتلة متراصة من القبائل البارزة في المجتمع، عوض تجاوز الولاءات القبلية والاثنية. والنهج هذا لا يعزز التماسك الداخلي، ويصيب الحكومة بالشلل. فيصير العراق لقمة سائغة أمام القوى الاقليمية. ويبدو أن واشنطن تميل الى مثل هذا التوجه، وترى أن احتمال تأليف الحكومة بناء على قضايا مشتركة ضعيف الصلة بالواقع. فكريستوفر هيل، السفير الاميركي الى العراق، أعلن مراراً أن الاكراد يجب أن يُمثلوا في الحكومة. واقترحت واشنطن على «العراقية» و»دولة القانون» التقارب. ولكن التقارب هذا لا يعني تقاسمهما الحكم، واستبعاد الآخرين، بل يفترض إشراك الآخرين في الحكومة بعد تقاسم الحصة الأعظم. واقترحت الادارة الاميركية حسم شد الحبال بين نوري المالكي وإياد علاوي على كرسي رئاسة الوزراء من طريق تولي أحدهما رئاسة مجلس الامن القومي. ويُغلّب الاقتراح هذا، ويصفه المسؤولون الاميركيون ب»طريقة لرفع عدد المقاعد»، كفة تشارك الحكم أو الهدنة على كفة الحكم السديد الذي يفترض تقليص عدد المقاعد. فمفتاح حل الازمة المقترح، أي منصب رئيس مجلس الأمن القومي وثيق الصلة بالبدع المؤسساتية التي أيدها الاكراد منذ 2005 لتقويض نفوذ الحكومة المركزية. وثمة أوجه شبه بين تركيبة مجلس الأمن القومي ولجنة النفط والغاز المقترحة في 2007. فقرار المجلس واللجنة هذين يأخذان بالاجماع، ما يبقيهما في حال من الضعف والشلل. والاستراتيجية الاميركية هذه تواجه تحديات واضحة. فالتسريبات توحي أن المالكي سيبقى رئيساً للوزراء، وأن علاوي سيرأس مجلس الأمن القومي. ولكن علاوي غير مهتم بالمنصب هذا، وعينه على رئاسة الوزراء. وولاية المالكي الثانية تفترض أن يرأس أكبر كتلة برلمانية. فإذا لم يتحالف مع علاوي، والحلف هذا يغني كتلتيهما عن مشاركة السلطة مع الآخرين، جرت الرياح على ما تشتهي طهران. وترسخ التحالف بين «الائتلاف الوطني» و»دولة القانون»، ولم تحد الحكومة المنبثقة من الحلف هذا عن نموذج التحالف الشيعي، «الائتلاف العراقي الموحد»، في 2006. وفي وسع «العراقية» الطعن في دستورية مثل هذه الحكومة التي تقوم على تحالفات ما بعد الانتخابات. وتخالف هذه النتيجة ما أعلنه جو بايدن وغيره من القادة الاميركيين عن تراجع النفوذ الايراني في العراق. وفي الاسبوع الماضي، قال السفير هيل أنه يتوقع انتخاب رئيس وزراء شيعي في العراق. والقول هذا يفتقر الى سند في الدستور العراقي، ويجاري ما يناسب ايران في السياسة العراقية. وقد يخلص المرء الى تناقض السياسة الاميركية، أو يستنتج أن ثمة توافقاً أميركياً غير معلن مع ايران في العراق. ولو تصدرت مصلحة العراق أولويات واشنطن، لحاولت دق الاسفين بين التحالفين الشيعيين، وفصلت بينهما. فبقي أحدهما في الحكومة، والثاني خارجها. ويفسح مثل هذا الترتيب المجال أمام نسج الطرف الشيعي في الحكومة علاقات بالقوى السياسية العراقية الاخرى. وسند الاقتراح الاميركي في الدستور ضعيف. ومجلس الأمن القومي لا ينص عليه الدستور. وهو أنشئ في 2006، ولم يفق من سباته. والأحزاب الموالية لايران رفضت الاقتراح، ورأت انه غير دستوري. وتغامر «العراقية» اذا قبلت رئاسة المجلس، عوض رئاسة الوزراء. فتفعيل مجلس الامن القومي يحتاج الى تعديلات دستورية فورية. ولا يسع «العراقية» قبول مثل هذه التسوية من غير المغامرة بتداعي وحدتها الداخلية وانهيارها. وقد تستمر فصول عارض التوافق الحكومي الذي ساد بين 2006-2010. وقد تعزف «العراقية» عن المشاركة في الحكومة والحكم، فتصير شريحة كبيرة من العراقيين ونحو نصف المحافظات العراقية من غير تمثيل سياسي. ولم تلح بوادر تقارب بين «دولة القانون» و»العراقية» للمضي قدماً نحو الحكم السديد وحكم الحزبين. و»دولة القانون» تتوسل خطاباً طائفياً، ويدور كلامها على التحالف مع لائحة «التحالف الوطني» الشيعية. وبدأت «العراقية» تدرك أنها تستغل في لعبة شد الحبال بين «دولة القانون» و»الائتلاف الوطني» في نزاعهما على رئاسة الوزراء. وتتكلم لائحة علاوي عن معجزة «صدرية». وإذا تنازل الصدريون أو جماعة «الائتلاف الوطني» الى علاوي عن رئاسة الوزراء، غرد العراق خارج سرب الدول الاقليمية، وجلا دور سورية الملتوي بين ايران والعالم العربي. ولكن الأمور تتجه الى هيمنة الاحزاب الشيعية على الحكومة العراقية. وقد يهمش الشيعة الاكراد. فهم، على خلاف 2006 ويومها كان انتخاب الرئيس يفترض غالبية الثلثين، لا يحتاجون الى أصواتهم لانتخاب رئيس. ويبدو أن ايران تنظر بعين الرضى الى مآل تشكيل الحكومة العراقية، والولايات المتحدة تقف مكتوفة اليدين، أو هي تسهم في تغذية الرضا الإيراني. * باحث، عن موقع «هيستوريا»، 26/8/2010، إعداد منال نحاس