كتاب وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو يشكل حدثا سياسيا بذاته. فالكتاب الصادر بطبعته التركية العام 2001 وبات متاحا للقارئ العربي، يقدم مقاربة غنية للعناصر السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل والثقافية والنفسية التي تشكل اللوحة الكبيرة للشرق الأوسط ودوله والمصالح التي تربطها ربطا وثيقا ببعضها. ولعل الكتاب الذي تنشر «الحياة» ابتداء من اليوم ثلاثة فصول منه، يحمل معالجة غير معتادة في الكتب العربية المشابهة لناحية استخدام الكاتب وسائل متعددة لبلوغ هدفه في تحديد «العمق الاستراتيجي» لتركيا. من الوسائل تلك قراءة معمقة في تاريخ الشرق الاوسط ككيانات سياسية واجتماعية تجمعها العديد من الموروثات الثقافية والدينية، وعلاقات الكيانات هذه المعقدة مع الغرب، المتعدد والمتنوع بدوره. وكان على داود أوغلو للقيام بمهمته هذه دخول عالم المفاهيم والنظريات السياسية والفلسفية والتاريخية، والأخذ في الاعتبار المسارات المتباينة التي شكلت منظومة العلاقات في الشرق الأوسط ذات الماضي الذي تتداخل فيه الصراعات الدموية والمنافسات الحادة والتعاون العميق بين مكوناته. ولا تغيب مؤثرات الماضيين السلجوقي والعثماني والروابط الملتبسة مع ايران باطوارها وحقباتها المختلفة والدول والممالك العربية، من المماليك إلى حكومات «البعث» في العراق وسورية، ومصر الناصرية، عن إضفاء لمسات ما زالت ظاهرة على ديناميات السياسة في المنطقة. ويذهب الكتاب إلى البحث عن السبل اللازمة لتدارك أثار الماضي وجروح والانطلاق منها لبناء مستقبل مشترك يعترف بالاحجام والأوزان التي تتمتع بها القوى الفاعلة في المنطقة انطلاقا من أهمية «المثلث الاستراتيجي» الذي تتشكل أضلاعه من تركيا وإيران ومصر. ويحضر الصراع العربي - الاسرائيلي بقوة في كتاب أوغلو الذي يستعرض أيضا عناصر الأزمة في بنية الدولة العربية الحديثة وما تركته الحقبة الاستعمارية ثم الانخراط في الصراع مع الدولة الاسرائيلية من تشوهات على آليات الحكم في العالم العربي الذي نظر الى العلاقات التركية الاسرائيلية بعين الريبة في الوقت الذي كانت انقرة تعتبر تمتين صلاتها بإسرائيل جزءاً من التزامها بالانتماء الى الغرب في فترة الحرب الباردة، وهو الانتماء الذي تضمن تكريساً للابتعاد عن التأثير العربي، في مجالات الدين والثقافة والهوية القومية تأسيساً على ما تركته الافكار القومية على تركيا منذ القرن التاسع عشر. كما يبحث أوغلو في دور تركيا في آسيا الوسطى بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في حين ان العلاقات الاوروبية - التركية، بفروعها العديدة الممتدة من روسيا إلى مساعي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مرورا بالبلقان والحساسيات التركية حيال التعامل الاوروبي مع الإرث التركي هناك، تحتل مكانا مهما من العمل الذي يتميز عن التناول التقليدي الأصم لمسائل الجيوسياسة والاستراتيجية والعلاقات الدولية. وتصدر الطبعة العربية للكتاب قريبا بعنوان «العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية» عن «الدار العربية للعلوم - ناشرون» وعن «مركز الجزيرة للدراسات» وبترجمة محمد ثلجي وطارق عبد الجليل ومراجعة بشير نافع وبرهان كوروغلو.