دعيت أخيراً لإلقاء محاضرة باللغة الانكليزية في كوبنهاغن، حول موضوع «التواصل الحضاري وأثره في تدعيم التفاهم بين الشعوب» في الرابطة الإسلامية في الدنمارك، حضرها عدد من المسؤولين الدنماركيين وسفراء الدول الإسلامية، ونخبة من المهتمين بقضايا الحوار بين الثقافات. وقد أوضحت في بداية المحاضرة أن «التواصل الحضاري»، هو ثمرة حوار الثقافات وتقاربها، كما أنه تعبير عن مستويات رفيعة من التعايش والتفاهم والاحترام المتبادل بين الشعوب، لأن التواصل باعتباره تفاعلاً، هو تبادل الوصل (لا القطع) بين طرفين، بحيث يصل كل طرف إلى الطرف الذي يقابله أو يرغب في الاقتراب منه والتعاون معه. فالتواصل الحضاري نتيجة للحوار والتقارب بين الثقافات يستند إلى الرصيد المشترك من القيم والمبادئ بين الأمم والشعوب، وينبثق من الإرادة الجماعية للأطراف المعنية به. ولن تكون للتواصل الحضاري والتحالف بين الحضارات مردودية تنفع الجميع، ما لم يقوما على أساس الاحترام المتبادل، ويتمّا تحت مظلّة ميثاق الأممالمتحدة، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمواثيق والإعلانات والعهود الأخرى التي هي القاعدة العريضة للقانون الدولي. وهذا يقتضي أن يقف الجميع بقوة أمام جميع أشكال العدوان على حقوق الشعوب في تقرير مصيرها، وأن تنتهي الانتهاكات المتكرّرة لحقوق الإنسان في أكثر من بلد، وأن يكون السعي من أجل استصدار قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة بتجريم ازدراء الأديان والمساس بالمقدسات الدينية، هدفاً مشتركاً تَتَضافَرُ جهود المجتمع الدولي من أجله. فالممارسات التي تَتَعارَضُ مع القوانين الدولية، تشكّل عائقاً أمام التواصل والتحالف بين الحضارات، ولذلك يتعيَّن أن يكون التنديد الجماعي بهذه الممارسات والسياسات التي تسير في هذا الاتجاه المضاد لأهداف التحالف، ممّا يهتمّ به العاملون في هذا المجال. ويعد الاستثمار الجيّد والمدروس بروح إنسانية، للرصيد الثقافي المشترك بين الحضارات، تعميقاً للتواصل بينها. ومن شأن هذا الاِستثمار أن يبدّد غيوم الشّك وسوء الفهم، وأن يمهد السبيل إلى التفاهم العميق، وإلى الإعلان عن الرغبة المشتركة في التعايش، لأنَّ التعايش السلمي ذا المنزع الثقافي والحضاري، هو المدخل إلى الحوار والتقارب، ثم إلى التحالف بين الحضارات. ويشكل الرصيد الثقافي المشترك بين العالم الإسلامي وأوروبا تحديداً، مصدراً للثراء الفكري الذي يجنّبنا الوقوعَ في المزالق التي تعترض الطريق أمام المؤمنين بالتواصل والتحالف بين الحضارات والعاملين من أجل تعزيزه ونشر ثقافته في الآفاق. إنَّ التواصل الحضاري هو من أقوى الوسائل المتاحة لإصلاح شؤون العالم، وللإسهام في إنقاذ الأسرة الإنسانية مما تتخبط فيه من مشكلات تَتَراكَمُ وأزمات تَتَفاقَمُ، فشلت السياسة الدولية حتى الآن، في إيجاد تسوية عادلة وحلول حاسمة لها، بالديبلوماسية التقليدية، وبالأساليب الاعتيادية التي تفتقر إلى الصدق والجدّية والإخلاص، وتفتقد الروحَ الإنسانية. ولذلك، فإن البناء الحضاري للعالم أجمع، بالتواصل الحضاري، وبالتحالف بين الحضارات، لا بالحوار فقط، وبالتعاون المثمر بين الأمم والشعوب، على هدي تعاليم الأديان السماوية والمبادئ الإنسانية، وفي إطار ميثاق الأممالمتحدة، هو المهمة الرئيسَة لأولي العزم والحكمة وذوي الإرادات الخيّرة والعقول النيّرة من مختلف المشارب والاتجاهات، ومن جميع الحضارات والثقافات، لبناء مستقبل آمن ومزدهر، لا تُنتهك فيه كرامة الإنسان ولا تهدر حقوقه، ولا يطغى فيه القويّ على الضعيف، إنما يحتكم فيه الجميع إلى القانون، وتسوده قيم التعايش والتسامح والمواطنة الإنسانية. ولتواصل الحضارات وتحالفها غايات نبيلة تستحق أن يضحي من أجلها العاملون بإخلاص من أجل الخير العام لبني البشر، تشمل احترام التنوع الثقافي والديني والعمل على استتباب الأمن والسلام، ومحاربة الفقر والأمراض الفتاكة والجريمة المنظمة والإرهاب بكلّ أشكاله، واستغلال الإنسان وحرمانه من حقوقه، وقهر إرادة الشعوب ومنعها من التمتع بحريتها واستقلالها، وتجارة المخدرات، والإتجار في الجنس، وإشاعة الكراهية والعنصرية والتفوّق العرقي، وصنع أسلحة الدمار الشامل، وسوء استغلال الهندسة الوراثية باستخدامها في الأغراض المنافية للفطرة الإنسانية وللقيم الأخلاقية. ولم تكن الإنسانية في مرحلة من مراحل التاريخ أشدَّ حاجةٍ إلى تعزيز التواصل والتحالف بين الحضارات منها اليوم، بعد أن تصاعدت موجة السياسات المناهضة للتواصل الحضاري وللحوار بين الثقافات، والرافضة للتحالف بين الحضارات، والمتعارضة مع قيم التسامح والتفاهم والتعايش بين الأمم والشعوب والاحترام المتبادل بين الأفراد والجماعات الإنسانية، ومع أصول التعاون بين الدول، على رغم مضي خمس وستين سنة على إنشاء منظمة الأممالمتحدة، ومضي اثنتين وستين سنة على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. ومن المؤكد أن التفاهم بين الشعوب مدخله تعزيزُ التواصل الحضاري، وترسيخ الحوار بين الثقافات. ولكن مع اقتناعنا بأهمية تركيز الجهود على تعزيز الحوار والتواصل والتحالف بين الحضارات والثقافات، في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ البشرية، نرى أن ضرورات استقرار العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب تقتضي رفع الحيف عن الشعوب الإسلامية، وفي مقدمها الشعب الفلسطيني الذي يعاني الأمرّين من احتلال إسرائيلي بغيض وحرمان من حقه في الحياة الحرة الكريمة، والكف عن عرقلة جهود دول العالم الإسلامي التي تبذلها لاكتساب المعرفة العلمية والتقانية ولممارسة حقها في امتلاك شروط القوة العلمية والقدرات التقانية في المجالات كافة، وعدم الوقوف في وجهها لمنعها من إقامة أسس الحياة السياسية السليمة التي تكفل لها أن تعيش في أجواء السلام الاجتماعي، والوئام المدني، والانسجام الثقافي، والتعايش السياسي، والتعاون لما فيه الخير للمواطنين كافة، دون تفرقة بين هذا المواطن أو ذاك. إنَّ ازدهار مستقبل العالم يتوقف على مدى تحسّن العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب من النواحي كافة. وحماية العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب من الاهتزاز، تخدم مصالح شعوب العالم، ولا تخدم مصالح الشعوب الإسلامية وشعوب الدول الغربية فحسب. ولذلك فمن مصلحة المجتمع الدولي بصورة عامة، أن تتضافر جهوده لإبعاد المخاطر التي تهدد هذه العلاقات بالأزمات. وهنا تبرز مسؤولية الأممالمتحدة في المقام الأول. فالعالم الإسلامي والغرب محكوم عليهما بالحوار، وبالتقارب، وبالتواصل، وبالتعايش، وبحماية المصالح المتبادلة، وبالسعي المشترك لإقرار الأمن والسلم في العالم، وبإقامة الجسور لا بهدمها، وبنشر قيم العدل والحق والوئام، وبمحاربة التطرف لدى الطرفين، بالبناء المشترك للسلام العالمي. وتلك هي الطريق إلى المستقبل الذي تتحالف فيه الحضارات ولا تتصارع، ويتحقق الأمن الشامل المبني على الاحترام المتبادل لا على الغطرسة وغمط الحقوق، والانسياق وراء دعاة الكراهية والعنصرية وتجار الحروب وصناع الفوضى الهدامة. * المدير العام للمنظمة الاسلامية للتربية والعلوم والثقافة – إيسيسكو