اعتاد المرء رؤية المتسولين بثياب رثة أو عاهة مستديمة أو إصابة، لكن الحال في السعودية خلال شهر رمضان الجاري مختلفة جذرياً إذ بدأت أساليب المتسولين تتطور، وطرقهم تستحدث، وهيئاتهم تتجدد، مستغلين الطارئ السنوي على حياة الناس في الشهر الكريم، من حب تقديم الخير والمساعدة والبحث عن الثواب. أمر آخر أجبر بعض محترفي التسول على تغيير أساليبهم، تلك التحذيرات الأخيرة من جهات أمنية ودينية رسمية تنبه إلى عدم التصدق على متسولي الشوارع، وهو ما لاقى تجاوباً من رجل الشارع، وضيق الخناق على ممتهني التسول. الإبداع يخون أحياناً صاحبه... هذا ما جعل سليم زعيتر (24 سنة) يهمل توسلات ذلك الشخص الذي وقف بجواره على الإشارة الضوئية، بهيئة ولباس سعوديين، طالباً منه بعض المال للعودة إلى مسقط رأسه في إحدى المدن شمال المملكة، معللاً مجيئه إلى العاصمة الرياض بمراجعات لوالده المريض. ويقول زعيتر: «لاحظت ضعف اللكنة العربية لدى المتحدث، لدرجة أنه لا يستطيع لفظ بعض حروف العربية، وهو أمر يتناقض مع ادعائه فرفضت إعطاءه المال». أما سمير سعد ففوجئ بإحدى السيارات تتوقف إلى جانب الرصيف الذي كان يمشي عليه متجهاً إلى سيارته، عندما ناداه سائقها: «أيها الشاب»... وحين اتجه إلى السيارة اكتشف أن الشخص يطلب المال لدفع قيمة بنزين سيارته وطعام لزوجته وأطفاله، زاعماً انه فقد ماله وأوراقه الثبوتية في طريق عودته من مكةالمكرمة حيث كان يعتمر. ويقول سعد: «كدت أصدق الرجل في البداية، لكن إصراره الشديد وتذلّله وخوفه من عدم اقتناعي جعله يبدأ بالدعاء لي بطريقة محترفة تشبه إلى حد كبير تلك الطريقة التي يستخدمها المتسولون». من الأمور التي انتشرت خلال الشهر الكريم أيضاً حضور بعض المتسولين إلى أماكن الطبقة المخملية والظهور في أجمل حلة، ومحاولة إيجاد حجج مقنعة يستميلون فيها الآخرين، عن طريق قص الحكايات عن صفقات خاسرة وديون متراكمة أدت إلى التضحية بكل ما يملكون، آملين ممن يستجدونهم مساعدة مالية يستطيعون من خلالها تمضية أيامهم المقبلة حتى يصححوا أوضاعهم. وانتشرت أخيراً ظاهرة المرأة الواقفة على باب الصيدليات والمحال التجارية، تهمس منكسرة الخاطر لكل من يرغب دخول المحل، بحاجتها إلى بعض الأدوية لها أو لقريب لها، ليفاجأ المتصدق بأنها تشتري بعد حصولها على المال أغراضاً باهظة الثمن حتى تتمكن من بيعها في مكان آخر. ومن اللافت أيضاً قيام بعض النساء بطرق أبواب المنازل والدخول إليها بزعم أنهن يقطن في الحي ذاته، مدعيات انتماءهن إلى عائلات معروفة، لكنهن يعانين مشكلات أسرية أدت إلى لجوئهن للغرباء لإنقاذهن من الأوضاع المزرية التي يعيشن فيها. ولكن مهما تعددت الشخصيات التي استحدثها المتسولون، فإنهم عند الحديث معهم تظهر «الديباجة» المشهورة والمتداولة بينهم، وهي الإلحاح على طلب المال وكثرة الدعاء واختيار الكلمات التي تظهر انكسارهم وذلهم تجاه الآخرين لمحاولة استثارة الشفقة. لكن ذلك لا يمنع بعض المتسولين من النجاح في المهمة. فمحمد الخلف (23 سنة) تعرض إلى خديعة من أحد المتسولين على رغم حرصه على عدم إعطاء المتسولين المال مهما تكن الظروف. يقول: «أوقفني رجل طاعن في السن وطلب مني إيقاف سيارة أجرة لتوصيله إلى منطقة الخرج التي تبعد عن مدينة الرياض 80 كيلومتراً، متحججاً بأنه قام بزيارة قريبه ولم يجد المال الكافي للرجوع إلى منزله». ويضيف: «عطفت على الرجل وتجاوبت معه فأوقفت له سيارة الأجرة وأعطيته مبلغ الرحلة، ولكني فوجئت بعد عودتي من العمل وعبوري الطريق نفسه بوجود الشخص ذاته، يعيد الكرة مع أشخاص آخرين». وتصف الاختصاصية النفسية الدكتورة لطيفة الحربي مهنة التسول بأنها من «أقدم المهن وأسهلها ويلجأ إليها كثيرون وليسوا كلهم عاجزين عن العمل». وتضيف: «لذا تراهم يسعون جاهدين إلى تقمص شخصيات تلائمهم وتساعدهم في الوصول إلى قلوب الآخرين للحصول على ما يرغبون». وتشير الحربي إلى أن «مهنة التسول في العالم العربي مليئة بالتحايل والخداع، على عكس التسول في المجتمعات الغربية، التي تقوم على طرق مكشوفة ومشوقة كالعزف على آلة موسيقية أو ارتداء زي غريب أو القيام بحركات مضحكة للفت الأنظار مقابل بضعة قروش». وترى الحربي أن «المتسولين في العالم العربي على وجه الخصوص يعانون اضطرابات في المزاج والسلوك ولذلك تجدهم يعيشون في هوس الكذب اليومي، ولا يشعرون بالذنب عند التحايل على الآخرين لطلب المال، ما يجعلهم عديمي الإحساس بواقعهم حتى أن بعضهم يصدق الشخصية التي يتقمصها ومن تفشل شخصيته في در المال عليه يلجأ الى الانحراف في عالم الجريمة والاعتماد على السرقة للحصول على الأموال».