كان متوقعاً فوز الولاياتالمتحدة الأميركية هذه السنة بجائزة نوبل الأدب بعد غيابها عن قائمة الأكاديمية السويدية طوال ثلاثة وعشرين عاماً، وكانت الروائية توني موريسون آخر اسم أميركي يفوز بها عام 1993. لكن ذهاب الجائزة إلى المغني والشاعر بوب ديلان (مواليد 1941) بدا بمثابة مفاجأة كبيرة بل «صفعة» للأدب الأميركي ولروائيين كبار كانوا مرشحين دوماً، وفي مقدمهم فيليب روث ودون دليلو وتوماس بينشون، وهم من رواد الرواية العالمية الراهنة. وإن بررت الأكاديمية اختيارها مغني الروك الكبير بصفته شاعراً «أبدع أشكالاً جديدة من التعبير الشعري في إطار التقاليد الراسخة للموسيقى الأميركية»، فهذا الوصف لا يبدو مقنعاً أمام هذا التجاهل الفاضح للرواية الأميركية الطليعية. لكن «طيف» السكرتير الشهير للأكاديمية هوراس أنغدال الذي عُرف بمعاداته للأدب الأميركي ما زال يلوح داخل قاعة التحكيم، وهو كان أثّر كثيراً في قرارات لجنة نوبل طوال أعوام توليه منصبه الرفيع. وفوز ديلان لن يرضي ما يسمى «اللوبي» الأدبي اليهودي في الولاياتالمتحدة الذي يملك حضوراً واضحاً في الأوساط الأدبية والثقافية، فهذا الشاعر المغني، اليهودي الأصل، كان أعلن عام 1979 انتماءه إلى المسيحية في خطوة مفاجئة، هو الذي تأثر كثيراً بأسفار التوراة اليهودية ولا سيما سفر أشعيا وسفر الجامعة حتى أنه استوحى أغنيته «على امتداد برج الحراسة» من إحدى حكايات النبي أشعيا وأغنيته الشهيرة «في وجه الريح» من الجملة الشهيرة في سفر الجامعة والتي تقول: «باطل الأباطيل، كل شيء باطل وقبض ريح». ولم يكن مستغرباً أن يسمى فنه في إحدى مراحله ب «الروك التوراتي». إلا أن أغنية «في وجه الريح» لقيت رواجاً رهيباً، خصوصاً في أوساط الشباب في أميركا والغرب وأصبحت أغنية جيل بكامله رفض فكرة الحرب وعبثيتها. يقول ديلان في هذه الأغنية: «كم من طريق يجتاز الإنسان قبل أن يُدعى إنساناً؟/ كم من بحر تعبر الحمامة البيضاء قبل أن يتسنى لها النوم على الرمال؟/ أجل، كم من مرة بعد ستنطلق قذائف المدافع قبل أن تخرس إلى الأبد؟/ الجواب يا صديقي كمن ينفخ في وجه الريح...». بوب ديلان شاعر ومغن ملتزم ويساري في المفهوم اليوتوبي، ومناضل في سبيل قضايا الشعب والمواطنة والثقافة المدنية والحرية، وضد الفكر الرأسمالي الأميركي والسياسة الرسمية والظلم واللاعدالة... وهو يُعدّ من رموز الثقافة الأميركية «المضادة» والتقدمية، غنى السلام والإنسانية وأعلن موقفاً ضد الحرب في فيتنام والتفرقة العنصرية. وعندما نظّم مارتن لوثر كينغ المسيرة الشهيرة إلى واشنطن دفاعاً عن الحقوق المدنية للمواطنين السود كان ديلان في طليعة الداعمين لها ولمطالبها وأقام على هامشها حفلات. وعندما اغتيل أحد المناضلين السود، ويدعى مدغار إيفرز عام 1963 أطلق ديلان أغنية بعنوان «بيدق فقط في لعبتهم» عرفت نجاحاً كبيراً. أما شعر بوب ديلان الذي لم يترجم منه إلى العربية سوى بضع شذرات فهو شعر كُتب ليغنى أي ليتوجه إلى الأذن مرفقاً بموسيقاه النابعة من صميمه. لكنه ترجم إلى لغات عدة وقرئ في كتب ولاقى رواجاً كبيراً لدى قراء الشعر كما لدى جمهور الأغاني. وفي فرنسا ترجم الكثير من قصائده في كتب أو ضمن مختارات من الشعر الأميركي. بوب ديلان في هذا المنحى شاعر كبير، ذو ثقافة شعرية راقية، قرأ السورياليين وتأثر بهم، ورافق جيل «البيت» (بيت جنيريشان) وثار مثل رواده (جاك كيرواك، ألن غينسبرغ...) على التقاليد الشعرية ولكن من غير أن يتطرف، فهو ظل «أيقونة» فن «الفولك» وما يتفرع منه، شاعر غناء الروك والبلوز والكاونتري الحديث. وكان له أثره الكبير في الفنانين الذين أعقبوه بمدارسهم الجديدة، وصرح فريق البيتلز مرة: «بوب ديلان هو الذي رسم الطريق». ويقال إنه عندما بدّل اسمه الأصلي روبرت زيمرمان ليصبح بوب ديلان عام 1962 اختار كنيته الجديدة هذه من اسم الشاعر البريطاني الكبير توماس ديلان المعروف بنزعاته الروحية والصوفية. وبينما كانت الأكاديمية السويدية تعلن ظهر أمس فوز بوب ديلان أُعلن في إيطاليا رحيل الكاتب والفنان المسرحي الإيطالي الكبير داريو فو حائز جائزة نوبل، ومن المنتظر أن يثير فوز ديلان سجالاً يشبه السجال الذي أثاره فوز داريو فو في إيطاليا عام 1997.