تلاشت الطريق المرصوفة بالحجارة القديمة إلا قليلاً. وحل التراب والحفر محلها على الطريق العتيق الذي يقسم منطقة البلد إلى نصفين مروراً بسوق العلوي الشهير. لم يعد لليل المنطقة التاريخية تلك الرائحة العبقة ولا صوت الماضي الهامس في آذان المارة.وكأن المكان في رمقه الأخير يقاوم للبقاء. يحاول استعادة رونقه ببسطات بيع الكبدة المنتشرة في أرجائه، ولوحات محال قادمة من الماضي ووضعت أخيراً ضمن خطة تطوير المنطقة التاريخية في جدة. إلا أن الصورة العامة تشي بخفوت وهج البلد كثيراًَ. الوجوه الغريبة عن المكان وفيه، وإقبال الناس المتواضع عليه، واستعداده الباهت لشهر رمضان. يوجد شيء منفر في المنطقة التي كانت يوماً كلحن عذب. الأرض لا تتناسق مع ما فوقها. روائح كريهة، وعمالة مخالفة تنتشر كالجراد بثقافة استغلالية، ومستودعات تبيع سلعاً محظورة ومغشوشة، وسكان المدينة لمسوا كل ذلك فاتضح عزوفهم عن المكان الذي كان يوماً قبلتهم المفضلة، خصوصاً في رمضان، للمتعة والتسوق المتنوع الثري وعيش الأجواء الرمضانية الشعبية. أيضاً دخل عامل منفر جديد هذا العام، كما يقول الشاب ماجد حامد، موضحاً أنه يتمثل في حرارة الجو التي لا تطاق والرطوبة العالية التي تخيم على مدينة جدة منذ هذا الشهر. ويضيف حامد: «فقد البلد لذته المعتادة. كان سابقاً أول ما يخطر على البال عند إعلان شهر رمضان، أما الآن فإن المنطقة تغيرت ولم تعد تغري بالزيارة كالسابق، فباتت وجهة الجداويين الحالية إلى المراكز التجارية والمولات الحديثة المكيفة والمجهزة بكل وسائل الرفاهية». العم صالح بائع الكبدة في منطقة البلد يجسد قصة البلد اليوم بتفاصيلها، فهو يرتاد المنطقة لبيع الكبدة في رمضان على مدى أكثر من 20 عاماً مضت، عاش خلالها فترات ذهبية كانت البلد قبلة الجداويين، وكان المكان يعبق برائحة رمضان وروحانيته وطقوسه، كما عاش فترات خفوت وهج البلد ونسيان الناس له، وخلو شوارعه إلا من مبانٍ متهالكة وعمالة مخالفة وسلع مقلدة ورخيصة. كذلك العم صالح يأتي إلى البلد إلا أنه مثل بقية سكان المدينة يودع أسرته في أحد المراكز التجارية المرفهة. يقول: «لا ألومهم فلم يعد لرمضان البلد رونقه الماضي»، مضيفاً «أما أنا فإن هذا المكان يجري في عروقي، وبيع الكبدة في رمضان إدمان لا يمكنني التخلص منه، وإن لم يكن فيه من الربح ما يغري». ماذا عن أعمال التطوير ومستقبل المنطقة؟ يجيب العم صالح «إذا لم يتنبه لها القائمون سيتلاشى البلد بعبقه الجميل وطقوسه التاريخية، فكل عام نشهد بأعيننا عزوف الناس عنه أكثر فأكثر، ولسنا نرى واقعاً ما يدل على أن الوضع سيتغير إلى الأفضل قريباً، «لكننا نرجو أن تكون أعمال التطوير التي تتم هذا العام بداية مرحلة جديدة لاستعادة منطقة البلد وإنقاذها من النسيان».