هذا السؤال ليس استفهامياً خالصاً بقدر ما هو إنكاري وتحذيري، وجوابه ينفتح على أسباب عدة، ظاهرة وخفية، تحرض الكثيرين على كره الديموقراطية ورفضها، إن كان كنمط للحياة الحرة الكريمة أو كنظام حكم عادل أو كقيم أخلاقية وإنسانية بسيطة! والحال أن ثمة من لا يريد أن يتعب روحه ليحدد الأسباب والعلل في ما صارت إليه أوضاعه البائسة، لا يريد أن يسأل نفسه كيف يعيش، وهل من عمل يمكن أن يقوم به كي يكون غده أفضل؟! هو يهرب من همومه كل صباح مثلاً، نحو حظه في الأبراج، ليحدد وفق توقعاتها مسيرة نهاره! يتلهف ليصغي إلى أمه أو جارته العجوز تبصّر له في فنجان القهوة، وتكشف له أي مصير ينتظره في يومه اللاهث! يبني آمالاً عريضة على ورقة يانصيب سرق ثمنها من قوت أطفاله عسى أن يبتسم الحظ له وتنقلب حياته رأساً على عقب! أو يحاول، نقضاً للحديث الشريف «أعقل وتوكل»، أن يريح صدره ويفسر كل انتكاسة يتعرض لها أو تدهور بأنه مشيئة القدر، يصالح بلادته بإقناع نفسه بأن «المكتوب ليس منه هروب». فنحن نكره الديموقراطية لأنها تساعدنا على العقلانية ونبذ الأساطير وتغذي في أرواحنا قيم الحوار والتفاعل الفكري مع الآخر، تدعونا إلى تشغيل أدمغتنا، وهذا ما لا نرغبه كونه يحثنا على التبدل والتغيير وينهينا عن الرضا والتسليم ويفند في نفوسنا أوهاماً وأباطيل طالما نظمت حياتنا. نبغضها لأن في مناخها الصحي يسهل الاجتهاد والخوض في قضايا فقهية ودينية تبدو من المحرمات في ظروف الإرهاب والقهر والقمع، ونحن لا يريحنا أبداً أن نذهب إلى ما قاله الإمام الغزالي منذ قرون بأن أفضل الإيمان هو إيمان العقل! لا نحب الديموقراطية ربما لأنها تدعو إلى تبني روح المواطنة وترفض التمييز بين البشر ولأنها تعري تعصبنا وتهز عصبياتنا وتصحح انتماءاتنا لبعدها الإنساني. لأنها تقول إن المواطن متساوٍ من دون النظر إلى جنسه ودينه وقوميته، فهل نقبل بأن نكون جميعنا أولاد تسعة، أم هناك من يعتقد أنه ابن الست وغيره ابن الجارية؟! ومن لا يرى الآخرين إلا حثالة أو حشرات تستحق الدهس والتنكيل! أو من يعتقد أن الحياة اصطفته بمنبت أو مركز، يتربع فوقه لينظر إلى ما حوله بدونية وازدراء. ثم لمَ نحب الديموقراطية ما دامت تمكن أولادنا من كسر طوق الطاعة العمياء، وتجبرنا على بذل الوقت والجهد لمناقشتهم وإقناعهم، وما دامت تدعو إلى المساواة بين المرأة والرجل، فمن أين يحق لضلع قاصر أن تأخذ فرصتها مثلاً، في التحصيل العلمي وتثبت كفاءاتها وتنافس الرجل على أعمال ومراتب كانت حكراً له؟! نمقت الديموقراطية لأنها لا تجيز العنف وتدعو لسيادة القانون، ترفض منطق القوة وتحبذ الحوار والتفاهم، وعندنا ما أكثرهم صناع البطولات والملاحم، من يفاخرون بعرض العضلات وبحدة الانفعالات وبمتانة لغة التهديد والسباب! من يطيب لهم التبجح بالثأر والانتقام، يصنعون من أي سوء تفاهم معركة، ومن الحبة قبة، ليتوجوا ذواتهم على عروش الظفر! ومن تنتقص رجولتهم إذا لم يقابلوا الصفعة بصفعة أشد منها، والاتهام باتهام والشتيمة بشتيمة أكبر! لا نحب الديموقراطية ونرفضها لأن هناك من ملأ أدمغتنا بأنها بدعة غربية أو منتج استعماري لا ينفع ثقافتنا ويضر تراثنا من دون أن نتعلم أنه في المناخ الديموقراطي توافرت أفضل الفرص لتعزيز خصوصيتنا الثقافية من خلال حرية مقارعتها ثقافات الآخر، وفي أجوائها أعيدت صياغة التراث وحقائق الماضي التاريخية كما يرجح أنها جرت بعيداً عن المبالغة والمغالاة. ولأن هناك من نجح في جعل كسرة الخبز لدينا أهم من الحرية، والبحث عن لقمة العيش أهم من إضاعة الوقت والجهد في قضايا المشاركة والحقوق السياسية، ونكرهها لأننا نريد أن نقنع أنفسنا بأنها الشعار الذي شنت من أجله الحروب وخلفت الاضطراب والفوضى، والعراق نموذجاً، وكي نجيز مسامحة الماضي التسلطي والاستبدادي والفاسد وإعفاءه من مسؤوليته كعلة أساس فيما آلت إليه أحوالنا من تردٍّ وبؤس. نبغض الديموقراطية لأنها تعلمنا احترام الرأي المختلف وحب الصراحة والنقد. فأي غباء أن نفتش عن وجع الرأس، عن أجواء الصدق وعمن ينكأ لنا جروحنا ويذكرنا بقسوة ما نحن فيه، ألم ندمن الزيف والخداع، نرفض الصديق إذا صدق، ونصفق للمداهن والمنافق ما دام يريح في دواخلنا نوازع الغرور ويغذي وهم التطلع نحو الكمال ويطرب أرواحنا بعبارات المديح! ونمقتها لأنها تضعنا في أتون معركة لا نرغب في خوضها إلى النهاية، حين تغدو الصحافة سلطة رابعة بالاسم والمعنى، وتجبر كل مقصر أو مخطئ او فاسد أو ظالم أو ناهبٍ حقوقَ الناس، وما أكثرهم وأكثرهم! أن يضع يده على رأسه خوفاً من المحاسبة والعقاب أو على الأقل من الفضيحة وحصار الرأي العام. أخيراً، نكره الديموقراطية لأننا نخشى أن تفضح ما نحن فيه، أن تكشف لنا عيوبنا وأمراضنا، وتشجعنا على تسمية الأشياء بأسمائها، لنقول عن بؤسنا إنه بؤس وعن هزائمنا إنها هزائم بينما اعتدنا أن نخاف من تسمية الداء، ولا نرى أو لا نريد أن نرى في هزائمنا المتكررة سوى انتصارات. ولأن في تطبيقاتها ما أثار في نفوسنا الكثير من القرف والاشمئزاز حين خانها الكثيرون وتنكروا لمبادئها وأخلاقياتها واستحضروا عصبياتهم وارتباطاتهم المتخلفة ونفوساً مريضة تدل على أنانية وجشع ورياء لا مثيل لهم! ونكرهها أيضاً لأنها تحاصرنا وتشدنا إلى أرض الواقع، تكشف ضعفنا وعجزنا وتعري ترددنا وجبننا، وكيف يهون علينا أن تسير أمورنا من سيئ إلى أسوأ، من دون أن ننبس ببنت شفة، ولأنها تظهر أرواحنا الخاملة المرتهنة لبعض الأوهام والأساطير، الحالمة ربما بالمعجزات وربما بفانوس علاء الدين السحري كي ينقلنا مارده الجبار من حال إلى حال من دون علوم أو جهد أو تضحية. قد لا تكفي الأسباب السابقة للإجابة عن سؤال: لماذا نحن العرب نكره الديموقراطية؟! وإذا كان هناك من لم يقتنع ببعضها، فلا شك لديه أسباب أخرى يمكن أن يظهرها كي تكتمل الصورة، ليصح القول عندها: تعددت الأسباب والكره واحد... * كاتب سوري