في المساجلة الدائرة حول بناء المسجد النيويوركيّ، أدلى «مؤرّخان كاثوليكيّان» أميركيّان هما جون ت ماكغريفي ور. سكوت أبلباي بدلويهما، في مقالة قصيرة نشرتها «نيويورك ريفيو أوف بوكس» في عددها الأخير. المقالة تحاول أن تؤكّد الوجهة الإيجابيّة، المندمجة والمتسامحة، التي سادت المجتمع الأميركيّ في ما يتعلّق بتجربة الكاثوليك الأميركيّين. فهؤلاء، بعد الاضطهاد المديد الذي عانوه، أمكنهم أن يوصلوا، في 1960، أوّل رئيس كاثوليكيّ إلى البيت الأبيض. لكنّ عبارة قصيرة ترد في المقالة تكتسب أهميّة مفتاحيّة: ذاك أنّ الحقوق التي حُرم منها الكاثوليك في الولايات المتّحدة «كان أحياناً يُحرم منها البروتستانت واليهود في البلدان الكاثوليكيّة». وأغلب الظنّ أنّ هذه النظرة المقارنة والعادلة، التي اخترقت عرض ظلامات الكاثوليك، هي التي سهّلت تراجع الغبن النازل بهم، ومن ثمّ اندماجهم المتكافئ في المجتمع الأميركيّ. بيد أنّ المقارنة وأخذ شراكة الظلم في الاعتبار لا يصدران إلاّ عن ثقافة اتّصال تتوخّى الانتساب إلى النموذج الأرقى في قابليّاته الاقتصاديّة والتعليميّة والثقافيّة سواء بسواء. فحين يكون هذا، وحين لا تُحتكر الضحويّة ولا تزيد في استثنائيّة صاحبها، تضعف قدرة النموذج على صدّها أو إبقائها خارجه. ومقالة المؤرّخين تحاول أن تقول إنّ تجربة الكاثوليك الأميركيّين، في تقدّمها وفي تدرّجيّتها، قابلة للتكرار في حالة المسلمين الأميركيّين. ذاك أنّ «الحقوق المتساوية لكلّ المجموعات الدينيّة هي ما يبني الولاء الذي يحتاجه كلّ مجتمع ديموقراطيّ». وهذا ما تقوم عليه براهين عدة تفيد أنّ استجابة التيّار الأميركيّ العريض للوجهة هذه علامةٌ على صحّيّة المجتمع الأميركيّ، وهو الرهان الذي تأكّد نجاحه في تجربة الكاثوليك. لكنّ ما يُلاحَظ، على هامش السجال هذا، أنّ ما يصحّ في أكثريّة المسلمين الأميركيّين لا يصحّ في أغلبيّة العرب والمسلمين في بلدانهم. فمن يتابع التعليقات وردود الأفعال في بلداننا على مسألة المسجد النيويوركيّ لا يفوته الغياب شبه الكامل لكلّ مقارنة بين ما يجري في الولايات المتّحدة على هذا الصعيد وما يجري في بلداننا. ذاك أنّ عدم التسامح تعدّى اليهود والمسيحيّين إلى الشيعة حيث الكثرة سنّيّة وإلى السنّة حيث الكثرة شيعيّة. أمّا التعامل مع الديانات «الأخرى» ودور عبادتها ورموزها، وأمّا القوانين والأحوال الشخصيّة وما يتعلّق بها فقصّتها البائسة تطول. والأنكى في هذا أنّ رداءة الأنظمة، وهي رداءة مؤكّدة، تبقى، على الصعد هذه، أقلّ من رداءة المجتمعات التي تستولي عليها، وتفتك بها، أكثر الخرافات ظلاميّة واستبداداً. وما لا شكّ فيه أنّ امتناع المقارنة ينمّ عن لون من العنصريّة المقلوبة، أو العنصريّة حيال الذات، فكأنّنا نقرّ بوجود معيارين، واحد للمتقدّمين يُسألون عنه ويُحاسَبون عليه، وآخر لنا، نحن المتخلّفين، الذين لا يُطلَب منّا ما يُطلَب منهم. ولنا أن نغامر بالقول إنّ السبب الظاهر وراء امتناع المقارنة هو قلب عقدة النقص إلى عقدة تفوّق واستعلاء: هنا يأتي احتكار الضحويّة ليقطع الطريق على كلّ بُعد واهتمام كونيّين وليثبّتنا في استثنائيّة حصريّة مزعومة. بيد أنّ سبباً آخر أشدّ خفاء يعزّز الظاهرة هذه، وهو فقداننا النموذج الذي يراد لقاء «الآخر» عنده. ففي بدايات القرن العشرين، كان تحصيل الحاصل لدى نُخبنا أنّ الغرب الليبراليّ والديموقراطيّ هو النموذج الذي يؤمل الانضواء فيه. ومذّاك بدأ التحايل على الإقرار بهذا النموذج، فاستُخدم الإسلام السياسيّ منذ نشأة «جماعة الاخوان المسلمين» أواخر العشرينات، ثمّ استُخدمت الاشتراكيّات الثوريّة على أنواعها، من لينين إلى غيفارا. وبين هذا وذاك حلّت في ربوعنا نسخ عابرة عن الفاشيّة والخمينيّة وسواهما. وها نحن في نهاية المطاف لا نجد من الاشتراك مع العالم سوى مقارنته مع الأحوال التي بلغناها!