تَزَامَنَ حدثان اثنان أذاعت وكالات الأنباء الأخبار عنهما من الولاياتالمتحدة الأميركية، شغلا الرأي العام في العالم الإسلامي، إن لم يكن في العالم كله؛ الأول عن دعوة قس أميركي يحمل اسم تيري جونز يعمل مشرفاً على كنيسة محلية معروفة باسم «دوف» في ولاية فلوريدا الأميركية، لحرق المصاحف الشريفة في ذكرى هجمات 11 أيلول (سبتمبر)، والثاني عن الاعتراض الواسع على إقامة مركز اجتماعي إسلامي متعدد الاختصاصات، في مدينة نيويورك، في موقع يبعد مئتي متر من موقع المركز التجاري الدولي الذي انهار بالكامل بفعل الهجمات الإرهابية الانتحارية الإجرامية التي وقعت في ذلك اليوم الأسود 11 أيلول عام 2001. وكلا الحدثين يؤجج مشاعر الكراهية والتعصب الذي يبلغ حد التطرف ضد الإسلام والمسلمين، ليس فحسب في الولاياتالمتحدة، وإنما في مناطق شتى من العالم. وإذا كان الحدث الأول قد تلقته الكنائس والمؤسسات والمنظمات المسيحية في عدد من دول العالم، بانزعاج شديد وبشجب ورفض صريحين، كما هو الشأن مع منظمة الأديان من أجل السلام التي تعدّ أكبر منظمة متعددة الأديان في العالم، والتي يوجد مقرها في نيويورك، ومع الطائفة الإنجيلية في مصر ومع الطوائف المسيحية الأخرى في شتى أنحاء العالم، فإن الحدث الثاني لم يلق من الأطراف غير المسلمة، تنديداّ واسعاً ورفضاً صريحاً للاعتراضات التي ارتفعت في الولاياتالمتحدة الأميركية، على إقامة المركز الاجتماعي الإسلامي المتعدد الاختصاصات، والذي سيكون من بين مرافقه مسجد، ومكتبة، ومركز مؤتمرات، وقاعة معارض، ومركز لرعاية الأطفال، بخاصة من لدن قيادات سياسية أميركية تنتمي إلى الحزب الجمهوري، ومنهم نيوت غينغريتش، الرئيس الأسبق للكونغرس الأميركي والطامح إلى الترشح للانتخابات الرئاسية عام 2012. وإذا كانت الدعوة العنصرية الإرهابية التي أطلقها القس الأميركي تيري جونز إلى حرق المصاحف الشريفة بمناسبة حلول الذكرى المقبلة لهجمات 11 أيلول، تمثل تحدياً صارخاً للأسرة الإنسانية جمعاء، وليس فقط للأمة الإسلامية التي تتوزع عبر قارات العالم وتنتمي إلى مختلف الجنسيات، باعتبار أن المسلم في أي مكان من هذا العالم، هو جزء من الأمة الإسلامية، بقدر ما هي خرقٌ سافرٌ للقانون الدولي الذي يكفل للإنسان حرية الضمير والعقيدة والعبادة والحق في الحفاظ على الخصوصيات الروحية والثقافية والحضارية، وهي أيضاً انتهاك للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وخروجٌ عن الإجماع الدولي الذي انعقد حول ضرورة بذل الجهود على كل المستويات، لتعزيز حوار الثقافات وتحالف الحضارات وتعايش الشعوب وتفاهمها، في إطار من الجوامع الإنسانية المشتركة، فإن هذه الدعوة العنصرية الموغلة في التطرف، تمس بالدستور الأميركي الذي تكفل نصوصه الحقَّ لجميع المواطنين (وللمقيمين أيضاً) في ممارسة شعائرهم الدينية، في ظل الحماية القانونية ضد أي شكل من أشكال الاضطهاد والضغط والإكراه والاعتداء على المقدسات وازدراء المعتقدات الدينية. وعلى رغم أن الحدثين منفصلان من حيث الشكل، فإنهما من حيث المضمون يلتقيان في كراهية الإسلام، والمساس بالمقدسات الإسلامية، واتخاذ الموقف المعادي للمسلمين والمتعارض كلياً مع حقوق الإنسان ومع القوانين الدولية. فكراهية الإسلام وكراهية العرب والمسلمين في وجه عام، تؤديان دائماً إلى اتخاذ مثل هذا الموقف، وتدفعان إلى التشكيك والتخويف من الإسلام ومن المسلمين، وتحرضان على اتخاذ إجراءات، تكون غالباً ضد القوانين، في حق المسلمين، حتى ولو تعلق الأمر بممارسة حق من حقوقهم التي تكفلها لهم القوانين المحلية والقانون الدولي. ومثال ذلك إقامة مركز اجتماعي إسلامي ذي أغراض متعددة، بمبادرة من مواطنين أميركيين، طبقاً للقوانين الجاري العمل بها، وبناء على ترخيص من المجلس البلدي لمدينة نيويورك، وعلى موافقة لجنة الحفاظ على المباني التاريخية. فجميع الأشخاص المسؤولين عن مشروع إقامة هذا المركز، مواطنون أميركيون، مارسوا حقهم الدستوري في بناء مسجد لأداء شعائرهم الدينية، ضمن مركب اجتماعي متكامل الخدمات وفي نطاق القوانين المحلية، وعلى غرار ما هو موجود فعلاً في مناطق كثيرة من الولاياتالمتحدة الأميركية. والدستور الأميركي يكفل للمواطن الأميركي الحقَّ الكامل غير المنقوص في ممارسة الحرية الدينية، وفي بناء الأماكن المخصصة لذلك، سواء أكانت كنائس أم بيعاً أم مساجد. وليس من بين هؤلاء المواطنين الأميركيين المسلمين من يتهم من طرف السلطات، بإحدى هذه التهم التي تكال للمسلمين وللعرب عموماً في الغرب، فهم مواطنون أسوياء، سجلهم المدني نظيف. وقد أكد الدكتور وليم.ف. فندلي، الأمين العام لمنظمة الأديان من أجل السلام، في خطاب بعثه إلى مركز الملك عبدالعزيز للحوار الوطني في الرياض، أن «التهديد الأخير الذي تبناه أحد القساوسة في ولاية فلوريدا بحرق نسخ من القرآن الكريم في ذكرى الهجمات الإرهابية في 11 أيلول، تصرف خاطئ وخطير، ويتعمد الإساءة إلى مقدسات المسلمين، وأن رؤساء الطوائف المسيحية في جميع أنحاء العالم، وجميع المؤمنين الصادقين من جميع الأديان، أبدوا رفضهم هذا النوعَ من الإساءة إلى الدين الإسلامي، وأبدوا تضامنهم المعنويَّ مع المسلمين، ورفضهم لما وجهوا لهم من إهانة وظلم... وفي الوقت نفسه، فإن الغالبية العظمى من المسيحيين يشعرون بالحزن من جراء هذا التهديد الفاضح الذي يظهر وكأن المسيحية تدعو الى عدم احترام الإسلام، وأن كل جماعة دينية هي عرضة لمثل هذا النوع من الهجوم الذي يسيء فيه المتطرف استخدام دينه لمهاجمة الآخرين، ويشعر بالنجاح إذا تمكن من خلق التوتر والاستقطاب بين الأديان والحصول على رد فعل من المجتمع المهاجم». إن هذا الموقف الواضح والشجاع الذي اتخذه الأمين العام لمنظمة الأديان من أجل السلام، هو الموقف النزيه الذي يعبر عن جوهر وثيقة الاستقلال (1776) والدستور الأميركي (1787) وقانون الحريات (1789) الذي أضيف إلى الدستور. كما يعبر هذا الموقف عن الطبيعة الإنسانية للشعب الأميركي بعيداً من التأثيرات التي يمارسها اللوبي الصهيوني والمحافظون الجدد الذين يدورون في فلك الأطروحة الإسرائيلية والصهيونية العالمية. وكان القس الأميركي تيري جونز قد أدلى بتصريحات عنصرية شنَّ خلالها هجوماً على الإسلام، واصفاً إياه «بأنه ليس ديناً سماوياً، بل هو نتاج الشيطان، وأن المؤمنين به سيذهبون إلى النار». وذهب إلى أكثر من ذلك بالقول «إن الإسلام سيتسبب في دفع مليارات البشر إلى جهنم، وإنه دين مخادع وعنيف». وتابع القس المتطرف تصريحه معلناً أنه سيقوم في ذكرى هجمات أيلول، بتنظيم حملة لحرق القرآن. أما نيوت غينغريتش، القيادي في الحزب الجمهوري، فقد أعلن أن «الذين يريدون بناء مسجد في غراوند زيرو معادون لحضارتنا، سواء أكانوا من الجهاديين المستترين أم من مرتكبي العنف المكشوفين، فإن مسعاهم واحد: جميعهم يريدون فرض الهدف الختامي، أي استبدال الحضارة الغربية بالشريعة SHARIA على نحو قسري راديكالي»... بحسب العبارات التي لخص بها الكاتب صبحي حديدي أقوالَ هذا المتطرف، في مقال مهمّ نشر له في صحيفة «القدس» اللندنية (20/8/2010)، بل إنه تمادى في هجومه على الإسلام مشبهاً إياه بالنازية. وهذا دليل على مدى عدوانيته ووقاحته. قد يبدو أن تناول موضوع الاعتراض على بناء مركز اجتماعي إسلامي في نيويورك، هو ضربٌ من التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ولكن الأمر هنا بخلاف ذلك، لأنه يمسّ حقاً من الحقوق المشروعة للمسلمين أيّاً كانت جنسياتهم. وهو حق تكفله القوانين الدولية. لذلك فإن الاعتراض على إقامة هذا المشروع الاجتماعي الديني في نيويورك، هو موقف موجّه ضد الإسلام والمسلمين، وليس موجهاً إلى مجموعة من المسلمين المواطنين الأميركيين فحسب، مما يجعله يتسق، من وجوه عدة، مع الدعوة العنصرية الإرهابية المتطرفة التي أطلقها القس تيري جونز للتحريض على حرق كتاب الله العزيز، إمعاناً في إهانة المسلمين في كل أقطار الأرض، وفي تأجيج نار الكراهية بدوافع دينية. فماذا ستكون تداعيات هذين الحدثين معاً؟ هل سيشكّل الحدثان حافزاً للعالم الإسلامي للتحرك في الاتجاه الصحيح وبالأسلوب الصحيح؟ أعتقد أن الوقت حان للتحرك على أكثر من صعيد، لنشر الحقائق عن الإسلام وعن الحضارة الإسلامية وعن العالم الإسلامي، في الولاياتالمتحدة الأميركية، بشتى الوسائل المتاحة، وهي كثيرة. لقد زرت الولاياتالمتحدة الأميركية في الربيع الماضي، فازداد يقيني بأن العالم الإسلامي غائب عن البلاد، وأن تصحيح المعلومات عن الإسلام وعن المسلمين (ولا أقول تصحيح صورة الإسلام) مطلوب بإلحاح شديد لمواجهة تيارات الكراهية والعنصرية. * المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة - إيسيسكو.