داخل محطة «لندن بريدج» القديمة هناك باب خشبي مغلق في معظم الأوقات، لكنه حين يفتح يأخذك الى عالم سحري شديد الروعة والجمال معروف باسم «شانت»، وهو اسم المجموعة التي تديره والتي اعتبرت هذا المكان مقراً لها منذ أيلول (سبتمبر) 2006. تتألف هذه المجموعة من 10 فنانين يعملون فردياً أو أحياناً كفرقة، وينتجون عادةً عروضاً مسرحية في أماكن غير اعتيادية. حين تدخل الى «لندن بريدج» تجد نفسك في دهاليز معتمة تحت الأرض وكأنك في مشهد من فيلم رعب قديم. فتمشي تلقائياً نحو الضوء ثم نحو الضوء الأبعد، الى ان تكتشف بأنك في مكان كبير جداً مكون من أماكن مختلفة وأنت حتماً بحاجة الى زيارات عدة حتى تتمكن من استيعاب المكان الذي لا يشبه أي شيء زرته أو تخيلته من قبل! في تلك الدهاليز وفي السنتين الماضيتين شاهد سكان لندن أجمل العروض التي قد تراها العين. ولا ندري إن كان المكان يزيد من جمال العروض أو ان اختيار الأعمال من قبل فناني «شانت» هو العبقري. وقد يلاحظ القاطن في العاصمة البريطانية أن أكثر الأماكن المفضلة للعروض المسرحية المشهدية في المدينة، هي تلك التي يُديرها فنانون يعرضون فيها أعمالهم . فهم يفهمون الفنان ويحترمونه ويساعدونه أكثر من المعتاد، أي يتحدثون اللغة نفسها على اختلاف بعض المنتجين والممولين. يمكنك في ليلة واحدة في «شانت» الانتقال من غرفة صغيرة تشاهد فيها عرض موسيقى كلاسيكية، الى مكان يعرض أفلاماً تجريبية مختلفة، ثم الانتقال الى ملهى حيث يجلس البعض ويرقص البعض الآخر، وحيث يرافق المسؤول عن برنامج الأسبوع في «شانت» المهتمين من الجمهور الى مكان هذا العرض أو ذاك. لا يمكن أن تعرف مسبقاً ما تخبئه لك ليلة في «شانت» من مفاجآت ، حيث يمكنك تمضية ليلة كاملة مع مغامرات لا تتوفر في اي ليلة لندنية اخرى. ولكن للأسف الشديد أقفل هذا المكان وهو سيُملأ قريباً جداً بالباطون ليحمل ناطحة سحاب ستبنى فوقه. على رغم هذا الواقع المؤسف والحزين، ما زال فنانو «شانت» يعملون وهم الآن في صدد افتتاح مكان آخر للعروض ، وهناك الكثير من الفنانين الذين «يحتلون» أماكن فارغة ولا سيما المتاجر الكبرى التي أفلست وأقفلت بسبب الأزمة الاقتصادية الحالية، وهم مدعومون مادياً من قبل الدولة التي تشجع تحويل الأماكن الفارغة الى ما يفيد المجتمع والأفراد. يعمل تيم أتشل وهو مخرج أشهر الفرق البريطانية التجريبية للعروض المسماة ب «فورسد انترتاينمنت»، على مشروع مع مصور فوتوغرافي حيث يجدان أماكن مهجورة تصلح لعروض مسرحية في مدارس بعيدة وكنائس مهجورة وغيرها، ويصوران وحشة تلك الأماكن التي تحمل الكثير من الطاقة. ويكفي أن تنظر الى صورها لتتخيل مشاهد وصوراً يمكن أن تحصل فيها! خروج العروض من المسرح التقليدي الى أماكن عامة وغير معهودة ليسا بشيئين حديثين، ونذكر هنا بعض الفنانين المعاصرين كالفرنسية سوفي كال التي جعلت سريرها الخاص مسرحاً، ومجموعة من الفنانين البريطانيين الذين ارتبطوا بظاهرة ال «YBA» وهو اختصار ما يترجم ب «فن بريطاني شاب» وأشهرهم داميان هيرست وترايسي شابمان . ونذكر أيضاً فرقاً مسرحية مختلفة مثل «غريد أيرون» و «بانش درانك» اللتين أنتجتا عروضاً شهيرة ومهمة في بريطانيا في السنوات الماضية، في أماكن تراوحت من مطار الى حديقة عامة، ومن مصنع قديم الى مقهى في شارع صغير منسي. على رغم أن ما يحصل اليوم من تجارب فنية ترتبط بأماكن معينة (site specific) ليس ظاهرة جديدة، لكنه الآن يبدو منطقياً في ظل أزمة اقتصادية عالمية تراجع معها دعم الحكومات والشركات التجارية، وبات يصعب على الفنانين ايجاد منتج أو مؤسسة داعمة... الحاجة أم الاختراع والابداع، وعندما لا يكون لدى الفنانين شيء ليخسرونه، يخرجون بأعمالهم الصاخبة الى الشارع ويبحثون عن أماكن فارغة يحولونها الى معارض رائعة غير مبالين بآراء المنتجين ومدراء المتاحف والنقاد. أما الجمهور فهو لطالما انجذب الى ما هو جديد مبتكر وجريء يخلق فيه أحاسيس بعيدة عن المشاعر اليومية والروتين القاتل، وهو أيضاً في ظل أزمة اقتصادية قاسية مهيّأ أكثر للتغيير، اذ تزعزعت لدى الكثيرين ثقتهم بالنظام ومنهم من فقد عمله وتغيرت حياته. يشهد التاريخ بأن الأزمات الاقتصادية لم تردع الفن والفنانين بل دفعت بهم الى الأمام وباتوا في خضم اللعبة الاجتماعية. وهذا بالضبط ما نحتاجه الآن، أن تستثمر مجموعات فنية شبابية الشارع والأماكن الفارغة والأحداث. أما في بلد مثل لبنان فالأسباب هنا مضاعفة لفعل كهذا، اذ إن الأماكن الفارغة اللبنانية تشكل ذاكرة جماعية لحرب وصراعات عدة والعمل فيها أو عنها بات أساسياً. فنحن، كفنانين، علينا أن نتصالح مع تلك الأماكن، التي نغض عنها النظر يومياً وهي الشاهد الأكبر الحسي لاضطراباتنا، وتاريخنا الحديث بدل أن نضيع وقتنا في مسارح وقاعات انطوائية ومفلسة.