يصدع نور الفجر ظلمة الليل، ويصدع أذان بلال سكون المدينة، ويوافي ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً؛ ليستريح البدن الشريف ساعة السحر بعد سبح طويل من قيام الليل، فإذا أذّن بلال استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول شيء يفعله أن يتناول سواكه فيستاك به ثم يقول: «الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور». ثم يجيب المؤذن بمثل ما يقول، ثم ينبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان به حاجة إلى الغسل اغتسل، وإن كان به حاجة إلى الوضوء توضأ. وربما قام إلى الصلاة من غير وضوء، فيقال له في ذلك فيقول: «تنام عيناي ولا ينام قلبي». ثم يصلي ركعتي الفجر؛ فيصلي صلاة خفيفة حتى يقول القائل: هل قرأ فيها بأم الكتاب لشدة ما يخففها، يقرأ فيها بعد الفاتحة في الركعة الأولى (قل يا أيها الكافرون ) [الكافرون: 1] وفي الركعة الثانية (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد) [الإخلاص: 1]. أما إذا فرغ من صلاته فإن كانت زوجته مستيقظة تحدث معها حديث المؤانسة والإسعاد، فما ظنك بزوجة محبة تستفتح أنوار يومها بحديث المودة من زوجها، وإن كانت نائمة اضطجع على شقه الأيمن حتى يحين موعد إقامة الصلاة، فإذا رأى بلال أن الناس قد اجتمعوا في المسجد أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادى: الصلاة يا رسول الله، فيخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، فإذا خرج من بيته قال: «بسم الله توكلت على الله رب أَعُوذُ بِكَ من أَنْ أزل أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ»، فإذا دخل المسجد قال: «بسم الله والسلام على رسول الله اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك». «أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم». فإذا رآه بلال داخلاً المسجد أقام الصلاة، وإذا رآه أصحابه قاموا إلى الصلاة، وربما خرج ورأسه ينطف ماءً من أثر الغسل، وربما خرج ووقف في مصلاه ثم تذكر أنه جنب ولم يغتسل فقال لهم: «مكانكم». ثم رجع إلى بيته فاغتسل ثم خرج إليهم ورأسه يقطر ماءً، فلم يكن صلى الله عليه وسلم يتكتّم هذه الأمور ويتحرجها، وإنما كان بشراً من البشر يرى الناس في حياته وقائع حياتهم. فإذا قام في مصلاه قال لأصحابه: «سووا صفوفكم وتراصوا فإن تسوية الصفوف من تمام الصلاة». ثم يصلي صلاة الفجر ويقرأ قرآن الفجر ويطيل القراءة فيقرأ في صلاته ما بين الستين إلى مئة آية، فإن كان يوم جمعة قرأ في الركعة الأولى ألم تنزيل السجدة، وفي الركعة الثانية (هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً) [الانسان: 1]، وربما قنت أحياناً بعد الركوع من الركعة الثانية في النوازل تنزل بالمسلمين فيدعو ويستنزل الفرج والنصر، فإذا أتم صلاته وسلم منها قال وهو في مكانه ووجهه تلقاء القبلة: «أستغفر الله أستغفر الله أستغفر الله، اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام». ثم ينصرف عن يمينه وربما انصرف عن يساره فأول ما يسمع منه أصحابه إذا أقبل عليهم بوجهه قوله: «ربِ قني عذابك يوم تبعث عبادك» ثم يقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون». «اللهم لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد». ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يكثر عليهم هذه العظات وإنما كان يتخولهم بها ويتعاهدهم من غير إملال. وربما أقبل عليهم إذا اجتمعوا حوله فقال لهم: «هل فيكم مريض نعوده؟». فإن قالوا: لا. قال: «هل فيكم جنازة نشهدها؟». فإن قالوا: لا. قال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟». فيقصون عليه رؤاهم، فيقول ما شاء الله أن يقول، وربما حدّثهم برؤيا رآها هو صلى الله عليه وسلم فقصها عليهم وعبّرها لهم كما في حديث سمرة قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «هل رأى أحد منكم رؤيا؟». قلنا: لا. قال: «لكني رأيت الليلة رجلين أتياني فأخذا بيدي فأخرجاني إلى الأرض المقدسة». ثم ذكر حديث الرؤيا الطويل وتعبيرها. ويتحدث الصحابة في هذا المجلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فيشاركهم الحديث والاستماع، فربما تحدثوا عن حياتهم في الجاهلية وما كانوا يقعون فيه من أحموقات الجهل التي تبدّى لهم عوارها بعد أن منّ الله عليهم بالإسلام، فإذا ذكروها ضحكوا من جهلهم في الجاهلية، ويتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان ضحكه تبسماً، ولا يزال صلى الله عليه وسلم في مجلسه حتى تطلع الشمس حسناء، ثم يقوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حُجر نسائه، فإذا دخل البيت قال: «اللهم إني أسألك خير المولج وخير المخرج بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا وعلى الله ربنا توكلنا». وأول شيء يبدأ به إذا دخل بيته السواك يطيب به فمه المطيب، ويسلم على أهله قائلاً: «السلام عليكم يا أهل البيت». ويطوف على نسائه يدخل على كل واحدة في حجرتها يسلم عليهن ويدعو لهن، وهكذا يشرق الصباح النبوي وفيه ضميمة جميلة من العلاقات تتم في أول ساعة من اليوم، علاقته بربه في صلاة الفجر وقرآن الفجر، وعلاقته بأصحابه في مجلس صباحي فيه الذكر والعلم وفيه الحب والأنس، وعلاقته مع أهله بحديث الإيناس مع أول أنوار الفجر، وطواف التعهد على حجراته لتنال كل واحدة حظها من قرب زوجها وحديثه وإيناسه، إن هذا كله يتم في سويعة الصباح الأولى مصداق قوله المصطفى: اللهم بارك لأمتي في بكورها. * نائب المشرف على مؤسسة «الإسلام اليوم».