من الطبيعي أن يثير ميل القيادة الفلسطينية للاستمرار بالعملية التفاوضية، على رغم النتائج العقيمة التي أودت إليها على ضوء التجربة الماضية، وعلى رغم انسداد أفقها في الظروف الراهنة، كثيراً من علامات الاستغراب والاستفهام. لكن ما يجب توضيحه هنا أن ثمة عوامل عدة تدفع نحو هذا الخيار ضمنها ارتهان هذه القيادة لهذه العملية بالذات، وعدم امتلاكها الإمكانات المناسبة لتوليد بدائل مغايرة عنها، وهيمنة المعطيات الدولية والإقليمية والعربية التي لا تسمح أصلاً بمغادرتها؛ في واقع بات فيه السلام بمثابة خيار استراتيجي ووحيد للنظام العربي. وما يجب إدراكه، أيضاً، أن هذه القيادة، بوضعيتها كسلطة، باتت معنية بتأمين الموارد اللازمة لتأمين مقومات الحياة في الإقليم الذي تديره، وهي موارد تأتي أساساً مما يسمى «الدول المانحة»، أو «الدول الراعية لعملية السلام»؛ على ما في ذلك من تضمينات سياسية. مع كل ذلك ثمة عاملان آخران، على غاية في الأهمية، يعزّزان ويسهلان هيمنة الخيار التفاوضي في الساحة الفلسطينية (بغض النظر عن عدم جدواه!)؛ في ظل المعطيات السائدة. العامل الأول، ويتمثل بغياب المجال العام السياسي والمجتمعي عن التقرير بالشؤون السياسية المصيرية. وكما هو معلوم فإن هذا المجال جد ضعيف وممزق ومهمّش، لا سيما أن الفلسطينيين يعيشون في ظروف قاهرة، إما تحت سلطة إسرائيل، في ظل الاحتلال والحصار والتمييز العنصري (في الضفة وغزة ومناطق 48)، أو يعيشون كتجمعات منعزلة عن بعضها، لا تتمتع بالقدرة على تقرير أوضاعها، في بلدان اللجوء والشتات. أما من الناحية السياسية فإن الحركة الوطنية الفلسطينية، على رغم تجربتها الغنية، لم تستطع التحول إلى حركة تمثيلية ومؤسسية تعبر عن تطلعات مجمل تجمعات الفلسطينيين، وتتمثل مختلف تلاوينهم السياسية (لأسباب موضوعية وذاتية أيضاً). ولعل هذا يفسّر غياب المجلس الوطني الفلسطيني، وتحول المجلس المركزي لمجرد منبر لإعلان البيانات والقرارات، وتهمش اللجنة التنفيذية التي باتت أقرب إلى ديكور في المشهد السياسي الفلسطيني، بعد تركّز الفاعلية السياسية في السلطة. كما يفسر ذلك موات المراكز والمؤسسات والهيئات التي أسهمت في إغناء الحركة الوطنية الفلسطينية، منذ انطلاقتها، وأضفت الحيوية عليها، من مثل مراكز الأبحاث والتخطيط والدراسات والإعلام، وكذا المنظمات والاتحادات الشعبية، التي بالكاد ثمة من يتذكرها. في ظل هذه الأحوال يبدو من الطبيعي أن «تتمتع» القيادة الفلسطينية بنوع من «استقلالية» عن مجالها الاجتماعي (تماماً مثل غيرها من الأنظمة) في التقرير بشؤون قضية فلسطين وشعبها، خصوصاً بالنظر لهشاشة هيئاتها التشريعية، وضعف صيغتها التمثيلية، وبواقع اعتماديتها، في مواردها المالية ونفوذها السياسي، على الإطارين الدولي والإقليمي، أكثر من اعتمادها على شعبها. أما العامل الثاني، الذي يعزّز الخيار التفاوضي، ويسهل على القيادة السائدة الإصرار على السير في طريقها (على رغم عدم جدواه)، فيتمثل بضعف فاعلية المعارضة. والقصد هنا بالضبط عدم امتلاك المعارضة لمشروع وطني بديل مناسب، وعدم تقديمها لنفسها كنموذج مغاير في قيادة وإدارة الوضع الفلسطيني. وفي الحقيقة فإن ما ينطبق على القيادة الرسمية، لجهة غياب مجالها العام المجتمعي والسياسي، ينطبق على المعارضة، فهي، أيضاً، لم تستطع بناء مؤسسات وطنية جامعة، ولم تستطع إقامة أطر تمثيلية، ولم تنتهج طريقاً أفضل في صنع القرارات، وصوغ العلاقات في الساحات النافذة فيها، وهي أيضاً تتغذى على المساعدات الخارجية وعلى النفوذ السياسي المستمد من علاقاتها الإقليمية. ومثلا، فقد لا يستطيع أحد أن يصف حركة حماس بالضعف، ولا بقلة الإمكانات، ولكن هذه الحركة أضعفت مكانتها بتحولها إلى سلطة في قطاع غزة، وبهيمنتها على المجال العام المجتمعي والسياسي فيه (في السياسات والسلوكيات) بصورة أحادية؛ ومن دون تمييز بين كونها حركة وطنية أو كونها حركة دينية. وفي الواقع فإن هذه الحركة لم تستطع تقديم سلطتها في غزة باعتبارها نموذجاً أفضل (من نموذج فتح في الضفة)، بدليل منازعاتها المستمرة مع ناشطي حركة الجهاد الإسلامي (وهي حركة إسلامية) وناشطي الجبهة الشعبية، علماً أن هذين التنظيمين ضد المفاوضات ومع الكفاح المسلح. كما يشهد على ذلك احتكار «حماس» إدارة قطاع غزة، وعدم أتاحتها المجال لفصائل التحالف الوطني التسع (على الأقل) مشاركتها هذه الإدارة. أيضاً، فإذا كانت سلطة فتح في الضفة تعتقل وتضيق على الحريات (وتسيطر حتى على المساجد) فإن سلطة حماس تقوم بكل ذلك في قطاع غزة أيضاً، وإذا كانت سلطة فتح تهيمن على القرار في الضفة من دون مشاركة حلفائها، فإن سلطة حماس في غزة تفعل الشيء ذاته! أما إذا تحدثنا عن أوضاع الفصائل المعارضة في الخارج فيمكن ملاحظة إنها لم تتقدم قيد أنملة في الارتقاء بأوضاعها، وتدارك التآكل في بناها، وهي لم تتمكن، طوال العقود الماضية من بناء منظمات شعبية فاعلة وجامعة (كاتحادات الطلاب والعمال والكتاب...)، ولم تبذل جهداً لإقامة مؤسسات موحدة لها في الخارج (لا مجلة ولا جريدة ولا إذاعة ولا مركز أبحاث ولا روضة أطفال ولا مستوصف ولا حتى ناد رياضي!)؛ هذا من دون أن نتحدث عن أن هذه الفصائل لم تعمل البتة على توحيد إطاراتها على رغم تماثل معظم الفصائل المكونة لها. ويستنتج من كل ما تقدم بأن ما يجري في الساحة الفلسطينية إنما هو تحصيل حاصل لحال انعدام الفاعلية وغياب المجال المجتمعي وأفول مشروع التحرر الوطني، لدى القيادة ولدى المعارضة في آن معاً. بمعنى آخر فإذا كانت القيادة الفلسطينية (وهي قيادة المنظمة وفتح والسلطة) تسير نحو الخيار التفاوضي فإن الفصائل المعارضة لا تملك شيئاً تستطيع تقديمه في مواجهة هذا الخيار، لا على مستوى تفعيل دورها في الصراع ضد إسرائيل، ولا بالنسبة لتعزيز مكانتها إزاء شعبها، ولا على مستوى تقديم نموذج أفضل لإدارة أوضاع الشعب الفلسطيني. ومثلما أن القيادة التي تنتهج خيار المفاوضة غير قادرة على فرض رؤيتها على إسرائيل في شأن التسوية، فإن المعارضة التي ناهضت المفاوضة والتسوية غير قادرة، أيضاً، على مواصلة خيارها بالمقاومة المسلحة، لا من الداخل ولا من الخارج، لا من الضفة ولا من غزة؛ ما يفيد بأن المشروعين المذكورين لا يمتلكان، بالدرجة نفسها، لا الإمكانات ولا القدرة على التحقق، ولو بالمعنى النسبي. ومن البديهي في ظل سيادة حال العجز في هذا الخيار أو ذاك، وعلى ضوء حال الانقسام المجانية السائدة، أن تبدو الساحة الفلسطينية في حالة ضياع، بدليل غياب المجال المجتمعي الفلسطيني، وبدليل أن الفلسطينيين لم يخرجوا في تظاهرات ولا في عراضات تندد بطريق المفاوضة، لمصلحة الكفاح المسلح، ولا في تظاهرات تدعو للمقاومة بالضد من المفاوضة، لا في الضفة ولا في غزة، ولا في مخيمات سورية ولا في مخيمات لبنان كما ولا في مخيمات الأردن، لا ضد فتح ولا ضد حماس! ولعل ذلك كله، وضمنه لا مبالاة الفلسطينيين (إزاء حال فصائلهم) يؤذن بتجاوز الوضع الفلسطيني مرحلة الأزمة، لكن ربما إلى مرحلة التشظي والانهيار. * كاتب فلسطيني