من المفهوم أن يكون الحديث حول زيارة العرب والمسلمين القدس، وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي، حساساً ودقيقاً وحمّال أوجه. لكنه وكغيره من سجالات تستلزم الروية والتأمل سرعان ما تلتف حوله دوامة خطابات التوتر والاتهام والتخوين. عندها لا يتوقف الحديث وينسحب فحسب، بل والعقل كله أيضاً، إذ يُحال كل الأمر إلى الرطانة والتباري في إعلاء نبرات ادعاء الوطنية. سؤال السجال هنا هو الآتي: هل من «المسموح وطنياً ودينياً» ان يزور العرب والمسلمين القدس ويعبرون إليها عبر بوابة المحتل الإسرائيلي؟ الجواب التقليدي والدائم هو النفي وتبريره المفهوم خلال العقود الماضية يقوم على أن مثل هذه الزيارات تعني أولاً التسليم بشرعية الاحتلال الإسرائيلي، وهو تسليم تنعكس رمزيته القصوى بقبول الأختام والفيزا الإسرائيلية على جوازات سفر مواطني الدول العربية والإسلامية. كما أن تلك الزيارات تعني ثانياً فتح بوابة التطبيع بين الدول العربية والإسلامية وإسرائيل. هذا الموقف هو الذي حسم الإجابة على ذلك السؤال منذ وقعت القدس كاملة في يد الجيش الإسرائيلي عام 1967. فما الذي تغير الآن، وهل هناك ما يستوجب إعادة فتح السؤال وجوابه في ظل تبدل الظروف كلها، وخصوصاً ظروف القدس ذاتها؟ الخطط الإسرائيلية الحديثة والمعلنة لتهويد القدس وأهمها «مخطط القدس 2020» تنص على ضرورة تحقيق أهداف عدة. أولها خفض نسبة الفلسطينين إلى اليهود في القدسالشرقية مما هي عليه الآن وهي في حدود 55 في المئة لتصل إلى 12 في المئة. وثانيها تقليص مساحة الأرض المخصصة للسكن في القدسالشرقية، أي للفلسطينيين، إلى نسبة 6 في المئة (بعد أن كانت قريبة من 100 في المئة). وثالثها إطباق دائرة الكتل الاستيطانية العريضة على القدسالشرقية، بعشرات الألوف من المستوطنين الجدد، بحيث يبهت أي معلم من معالمها العربية الإسلامية ويضيع الوجود الفلسطيني فيها وسط بحر التهويد. رابعها، مضاعفة مساحة ونطاق القدس الكبرى ليمتد باتجاه غور الأردن واصلاً إلى معبر الملك حسين (اللنبي) مع الأردن، وليقطع جنوب الضفة الغربية بالكامل عن وسطها وشمالها. ليست هذه الأهداف ولا غيرها خطة سرية تنسجها الحكومات الإسرائيلية المتتالية، بل هي خطط «تنموية» معلنة ويتم تخصيص موازنات هائلة لتنفيذها، مثلاً تم رصد 15 مليار دولار لتنفيذ «مخطط القدس 2020». ماذا سنفعل نحن العرب والفلسطينين خلال سنوات تطبيق تلك الخطة؟ سنقوم بالآتي: سوف نرصد مراحل التطبيق مرحلة مرحلة لنكشف المخططات الصهونية لتهويد القدس ونزيد من التنديد بها، سوف نصدر قرارات إدانة عدة من القمم العربية، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، ولجنة القدس، ويندد عدد لا يحصى من الهيئات بالتهويد المستمر، سوف يتبارى الجميع في «التحذير» من مخاطر ما يحدث: الكل يحذر الكل. ثم في عام 2020 نلتقي مرة اخرى على صفحات الجرائد والإعلام لنحذر من مخطط جديد ربما سيكون بعنوان «مخطط القدس 2040»! عندما احتلت اسرائيل القدسالشرقية عام 1967 كانت نسبة اليهود فيها إلى السكان الفلسطينيين صفر في المئة، والآن تزحف تلك النسبة لتصل إلى الخمسين، إن لم تكن وصلت. طوال الأربعين سنة الماضية أو أكثر والجميع يرى «مخططات التهويد» ويرصد ويحذر. في سنة الاحتلال نفسها كانت نسبة الفلسطينيين الذين يعيشون في القدسالغربية حوالى 23 في المئة، واليوم وصلت تلك النسبة إلى الصفر. معنى ذلك أننا صفعنا وجوهنا على الخدين، فلا نحن دعمنا صمود القدسالشرقية وأهلها وحافظنا على الأرض فيها، ولا نحن شجعنا من كان من الفلسطينيين في القدسالغربية أن يبقى فيها. وبطبيعة الحال كان سيف التخوين والتكفير يتلمظ لقطع رقبة من يريد زيارة القدس من العرب والمسلمين، فضلاً عن الاستثمار فيها وشراء الأراضي أو سوى ذلك. الآن نستمر في السياسة نفسها، وفي ظل عجز أسوأ ألف مرة مما كانه خلال الأربعين سنة الماضية. حكوماتنا مجتمعة، جامعتنا العربية العتيدة، مؤتمرنا الإسلامي (أي هو بالمناسبة؟)، كل فعلنا الفردي أو الجماعي تجاه القدس محصلته صفر مصفى. اي زائر «محايد» القدس هذه الأيام يخرج بانطباع أولي وسريع: هذه مدينة يهودية بالتمام والكمال. سيقول في نفسه صحيح أن فيها بعض الأماكن المقدسة «غير اليهودية»، وأقلية عربية مسلمة، لكن الطابع العام للمدينة يهودي. يهود العالم يحجون إليها طوال العالم ومن كل الجنسيات. يشترون فيها، يستثمرون، يبنون عمارات سكنية وشققاً بالآلاف. والقوانين الإسرائيلية التي وضعت حتى تشجع يهود العالم على القدوم والشراء في القدس تسمح نظرياً وقانونياً لأي مستثمر آخر من أي بقعة في العالم أن يأتي ويشتري ويستثمر في القدس. تترك القدس أرضاً مشاعاً لكل يهود العالم كي يشتروا ويستثمروا فيها، فيما تتعرقل الرساميل العربية والإسلامية بكل مقولات التطبيع والشلل الذاتي، وتساعد بطريقة غير مباشرة على تهويد القدس، وهي الرساميل ذاتها التي تستثمر في كل رقاع الأرض. في تبريره شراء يهود أراضيَ فلسطينية في القدسالشرقية والبناء عليها يكرر بنيامين نتانياهو لازمة تقول بأن البيع والشراء في القدس كلها، غربييها وشرقييها، مفتوح وهو لا يمكن أن يمنع فرداً ما يريد أن يشتري ويستثمر في أي بقعة من المدينة. وعندما تقوم شركة إسرائيلية بعمليات التفاف واحتيال عدة ومعقدة ومن خلال أكثر وسيط حتى تشتري بيتاً أو قطعة أرض في القدسالشرقية وتدفع ملايين الدولارات للوسطاء وغيرهم، فإنها بذلك تقوم بعملية قانونية. علينا أن نتخيل أيضاً أن شركة فلسطينية، أو عربية، اسلامية تقوم بالعمليات نفسها لشراء أراض وبنايات ليس في القدسالشرقية فحسب بل وفي الغربية أيضاً. لكن وقبل أن ترتعد فرائص نتانياهو فإننا نطمئنه ونقول له بأننا لن نفعل هذا لأننا نسميه تطبيع، فليكن قرير العين وليهنأ بالمنافسة وحده في سوق عقارات القدس. سيقول قائل: بهذه الطريقة يتم تقليص المعركة إلى تنافس عقاري في القدس فقط. وهنا يكون الرد أيضاً بالتساؤل عن البدائل التي يطرحها أصحاب الحناجر العالية التي ترفض كل ما سبق بمسوغ التطبيع – إلا في حال عدم ملاحظتنا جحافل تحرير القدس التي تصطف على بواباتها مثلاً؟ هل ستكون إسرائيل راضية مرضية وفرحة بتطبيع يعني بالنسبة إليها قدوم الرأسمال العربي والإسلامي إلى القدس مستغلاً كل الإعلانات الإسرائيلية التي تزعم بأن السوق مفتوحة للعقارات، ولينخرط في تملك أراضي ومباني ومشروعات في القدس؟ هل ستكون إسرائيل فرحة بزيارات عشرات الألوف من العرب والمسلمين وإقامتهم في القدسالشرقية وتعزيز السياحة الدينية فيها ودعم صمود وبقاء البقية الباقية من الفلسطينيين هناك، عوضاً عن تركهم يُطحنون تحت الضغوطات الإسرائيلية التي تبدأ ولا تنتهي؟ هل ستكون إسرائيل فرحة بتطبيع يعزز وجه القدس العربي والإسلامي والمسيحي، ويكسر الاحتكار اليهودي للمدينة والذي يريد أن يغلق انفتاحها التاريخي؟ على رغم كل ما ذكر أعلاه يجب القول أيضاً أن هذه الدعوة لا تخلو من محاذير، إذ سيكون هناك طابور طويل من «المطبعيين الحقيقيين» الذين سوف يستثمرونها ويرون فيها البوابة التي كانوا ينتظرون فتحها على أحر من الجمر. وليس هناك أيضاً أي تقليل من سطوة رموز السيادة وأهميتها بما في ذلك تصاريح الدخول، والفيز، والأختام. وليس هناك أي زعم بأن تطبيق كل ما ذكر اعلاه سيقود إلى الإيقاف الفوري لمخططات تهويد المدينة المقدسة، لكن ما تبتغيه على الأقل القيام بفعل أبعد من المعارك اللفظية التي نثخن بها جسد إسرائيل صباح مساء. وليس هناك زعم أيضاً بأن هذه الدعوة هي صافي أرباح من دون خسائر، فهذا ما لا يوجد في الحياة وسياستها، والصراعات وخوضها. لكن ما تزعمه هذه السطور هو أن ميزان الإيجابيات، وفي هذه الوقت العقيم عن البدائل، راجح على السلبيات المقدرة والمُعترف بها. تبقى إشارة لا بد منها متعلقة بقصة فتاوى التحليل والتحريم في هذا السياق، سواء أكانت تأتي من مراجع مسيحية أم مراجع إسلامية، وغالبيتها أصدرت وتعيد إصدار فتاوى بتحريم زيارة القدس. هذه المراجع تتدخل في شأن لا علاقة له بالدين، وهي عموماً ينقصها الحس السياسي، وتقدير المصلحة الأوسع من ضيق النظرة التي تصدر عنها، وأفضل لها ولأتباعها أن توقف تعدياتها على الحياة الدنيا وتبقى نفسها مهمومة في تخصصات الحياة الآخرة. وبعيداً من التساذج والتغافل فإن ما تظنه هذه المراجع تسيساً ذكياً تتضمنه مقارباتها إزاء زيارة القدس، فإن جوهره هو لا يخدم الدين نفسه الذي تحاول الدفاع عنه. فحتى من منطق ديني بحت هل من مصلحة المسيحية العربية أو الإسلام أن تغلق القدس على اليهود فقط؟ لو كنت حاخاماً يهودياً وعيني على سلوان في القدسالشرقية لهتفت في سري وفي علني: يعيش مناهضو التطبيع! * محاضر في جامعة كامبريدج بريطانيا