لا يفيض الاستقرار عن جنبات النظام اللبناني حتى يخشى أهله عليه اضطراباً يحمله توطين مئات الآلاف من الفلسطينيين. فبلاد تمر في أزمات «وجودية» لا تخلو من عنف مروراً دورياً، تتخللها حروب إسرائيلية بمعدل واحدة كل خمس سنوات، لا يصدق حديث أهلها عن حرصهم على سلام أهلي يهدده الفلسطينيون. بل ما ينطوي على معنى هنا هو مستوى أو درجة الاختلال في النظام اللبناني الذي يفاقمه التوطين المشكو منه. ومن البداهة بمكان القول إن سوء العلاقات اللبنانية – الفلسطينية يعود إلى سوء علاقات اللبنانيين ببعضهم وإلى عجزهم عن صوغ إجماعات وطنية، ما خلا اضطهاد الفلسطينيين بعد انتهاء الحرب الأهلية. ومن البداهة أيضاً، أن الفلسطينيين لم يتوانوا عن استخدام كل ما وسعهم استخدامه بين 1968 و1982، لتهشيم الدولة وسلطتها وإقامة سلطتهم البديلة وكل ما حمله ذلك مما بات يعرف «بالتجاوزات» او «الممارسات». وعلى هاتين القاعدتين تتأسس العلاقات اللبنانية الفلسطينية. لكن قبل الصدامات المسلحة الأولى بين الجيش اللبناني ومسلحي منظمة التحرير الفلسطينية، كان آخر فلسطيني مسيحي من لاجئي عام 1948 قد نسي متى حصل على الجنسية اللبنانية، واختفى منذ عقود مخيم الضبية الذي كانت أكثرية سكانه من الفلسطينيين المسيحيين. واصبح هؤلاء جزءاً من النسيج الاجتماعي لا يمكن تمييزه أو فصله عن باقي المكونات اللبنانية. وبسبب القلة النسبية في عددهم، لم يهدد الفلسطينيون المسيحيون بتغيير التناسب الطائفي الذي ظل مائلا، قبل حملهم الجنسية اللبنانية وبعده، لغير مصلحة المسيحيين في لبنان. والقانون الذي أقر قبل أيام ويتيح تحسيناً طفيفاً في ظروف حياة اللاجئين الفلسطينيين، لن يتسبب في انقلاب الموازين الطائفية. هذا ناهيك عن أنه لن يزيد وطأة البطالة على الوافدين اللبنانيين الى سوق عمل مكتظ أصلاً. ومفهوم ان التبريرات العنصرية التي تقيم تعارضاً بين حق الفلسطينيين في العيش الكريم وبين فرص عمل اللبنانيين، تصدر عن الأشخاص ذاتهم الذين لم يجدوا غضاضة في استغلال الأيدي العاملة الفلسطينية طوال الفترة الممتدة من وصول اللاجئين الى اندلاع الحرب في 1975. بل قد تصح الملاحظة القائلة إن القانون الجديد يحسن شروط عودة الفلسطينيين إلى مؤسسات لبنانية تحتاج إلى أيد عاملة غير ماهرة طالما ان المهن الحرة بقيت أبوابها موصدة أمام حملة الشهادات الفلسطينيين. وسيظل الأطباء الفلسطينيون، على سبيل المثال، قيد حصار ضيق بين المؤسسات الطبية الفلسطينية في المخيمات والمستوصفات التي تشرف عليها هيئات دولية. ومن الملح التذكير هنا بأن الحقوق المدنية الفلسطينية ليست منحة أو مكرمة من أحد، بل انها تندرج في سياق التزام لبنان تنفيذ دستوره وقوانينه والمعاهدات الدولية التي وقع عليها لناحية احترام حقوق الانسان الأساسية ومنها حقه في العمل والعلم والانتقال. ولعل أكثر ما يثير الشفقة في تفكير معارضي تملك الفلسطينيين العقارات في لبنان، ذلك الربط الساذج بين الملكية العقارية وبين السيادة السياسية على الأرض. فالقائلون إن تملك الفلسطينيين شققاً أو بيوتاً هو مقدمة توطينهم الأبدي، يناقضون أنفسهم في موقعين: فهم فيما يروجون لبراءة مواطنيهم وسياسييهم من المسؤولية عن الحروب التي يشهدها لبنان ويلقون باللائمة فيها على «الغريب» والأجنبي والخارج الكلي القدرة في رسم مصائر أبناء هذه البلاد المغلوبين على أمرهم، يتجاهلون أن «خارجاً» هرقلي القدرات، سيفرض التوطين عليهم كما فرض الحرب والسلم والهدنات وصنوف التهدئات والتوترات، مرات ومرات. وهذا بغض النظر عن كل ما في «وثيقة الوفاق الوطني» (اتفاق الطائف) ومقدمة الدستور من مواد تمنع توطين الفلسطينيين الذين أكدوا تمسكهم بحق العودة إلى بلادهم. ثانياً، ان البون شاسع بين الملكية العقارية والسيادة الوطنية. وإذا صودف أن ارتسم مشروع يهدف إلى تجميع الملكيات العقارية التي تعود لغير اللبنانيين وانشاء دولة عليها، فسيكون ذلك مؤشراً إلى أن العالم قد انقلبت فيه معايير القانون ومفاهيمه الأولى والتأسيسية. وبالعودة إلى القانون الجديد، فقد تطلب الوصول اليه، برغم كل نقائصه وعوراته، اجتياحاً اسرائيلياً وانسحاباً عسكرياً سورياً وحرباً لبنانية – فلسطينية جديدة، لا تقل التباساً وتعقيداً عن سابقاتها. لقد كان من المستحيل تصور إعادة النظر في وضع الفلسطينيين في لبنان قبل أن ترتفع قبضة منظمة التحرير عنهم، أو قبل انتقالهم من موقع «الفدائي» إلى موقع «اللاجئ». ولعله من غرائب الأمور أن تكون الفصائل الأشد تطرفاً قبل الاجتياح الإسرائيلي، هي الأنشط اليوم في السعي الى توفير الحقوق المدنية للفلسطينيين. يضاف إلى ذلك أن الحقبة التي امتدت من 1982 إلى نيسان (ابريل) 2005، تاريخ خروج القوات السورية من لبنان، شهدت مناورات وحروباً فلسطينية – سورية، مباشرة أو بالوكالة، في الشمال ومخيمات بيروت والجنوب، انتهت إلى احتواء سورية للوضع الفلسطيني، كما لغيره، على «الساحة» اللبنانية واندراج الوضع هذا، تالياً، في الاستراتيجية السورية العامة في لبنان. وبعد ارتفاع العبء الفلسطيني المسلح والدور السوري المباشر، كان من طبائع العلاقات اللبنانية - الفلسطينية أن تندلع جولة دموية في مخيم نهر البارد ليعود النقاش حول الحقوق الفلسطينية إلى المكان الذي كان من الأفضل أن يحتله منذ عشرات الأعوام، أي مائدة المفاوضات بين ممثلي الشعب الفلسطيني الذين يختارهم وبين السلطة اللبنانية. وما كان لحرب نهر البارد عام 2007، أن تنشب لولا حالة من انعدام الرؤية والتخبط السياسي الفلسطيني الذي تدخل فيه من أحسن استغلاله. وليس كشفاً القول إن الضعف الشديد الذي أظهرته الهيئات السياسية والاجتماعية الفلسطينية أثناء تلك الأزمة، والذي تسببت به أعوام من التضييق، بيّن ما يمكن أن تحبل به المخيمات الفلسطينية المتروكة والمنسية من السلطة الوطنية في رام الله ومن الحكومة اللبنانية سواء بسواء. وربما كانت صدفة ان يتزامن مقتل أمير «فتح الإسلام» مع إقرار بعض حقوق الفلسطينيين. لكنها من نوع الصدف التي تشير إلى أن الفلسطينيين واللبنانيين لم يختاروا تماما بعد أياً من طريقي العنف والحوار في علاقاتهم ببعضهم سيسلكون.