أكتب متأخراً عن رحيل «الرمز الوطني»، لعجزي عن تدوين سيرة مواطن استثناء في اللحظة المباشرة لإعلان مغادرة جسده الحياة الفانية، أعجز لأني الابن المُدْهَش المندهش من حضور والده السياسي، الروائي، الديبلوماسي، الوزير، الشاعر، الإنسان، وعاجز عن اختصار كل هذا الحضور ومساحات العمل والإبداع في أسطر مقالة أكثر ما يقال عنها أنها تأبين قزَم لراحل «عملاق»! هو السياسي المتوازن الطموح، واضع الوطن نصب عينيه، فلم يرض به ولا رضي بغيره، صبر وصمد وقاوم حتى الذين لم يستوعبوا ما الذي كان يفعله من أجل إنسانه وأرضه، هو الروائي العاشق للمكاشفة والمواجهة وتحدي الحواجز الاجتماعية، لا لكشف المستور، وإنما لتبيان الحقيقة وقراءة الواقع بعينين كاملتين وإبراء الذمة، كان الديبلوماسي في حضوره وعمله وإطلالته ومواجهاته أيا كانت سخونتها، ليثبت أن للمواقف رجالها ومن رجالها «غازي»، هو الوزير الذي أحبه المواطن من قلبه وسكن ذاكرتها على طول الزمن، حين عرف معه إضاءة الأمكنة، ودواء الأجساد، وشاهد وأدرك قيمة الضوء ومعنى العلاج والدواء، كان يبوح بأوجاعه وجراحه ومراحل حياته عبر سِحْر «الشعر»، فكان لزاماً أن يكون شاعراً يحفظ له جيل كامل، ويدرس شعره جيل آخر، ويعزفه جيل ثالث، هو الإنسان بكل ما تعنيه هذه المفردة المفقودة بالتدريج مع مرور زمن عاجل ينظر للإنسانية كمحطة عبور إن لزم الطريق بالتوقف أمامها للحظات. اخْتَصَر هذا الراحل اليتيم مساحة الأمة وصورة الوطن وتفاصيل المجتمع الصعب في العمل والحماسة والإخلاص وتقبل الجديد، غار على وطنه فأخرجت هذه الغيرة منه بطلاً مبدعاً قوياً متمكناً من قوله ومنطوقه، تخطى بصوته وحضوره حدود الجغرافيا ورسم ملامح فاخرة للإنسان السعودي في أعين المجاورين والمشاهدين والقارئين، الذين أحبوا هذه الأرض لأنها أنجبت رجلاً ومواطناً ورائداً وسيداً للذاكرة من قبل وبعد اسمه «غازي». لذا نحن لم نستطع أن نؤجل العبرات على رحيل «أبي يارا»، لأنه جال على مختلف الأصعدة، ومر على كراسٍ متعبة منهكة فاتعب وأنهك من جاء من بعده، وعلى رغم انه حورب على أي مقعد مر به وكان من سطور سيرته «الأنموذج»، ولصفاء النية ونقاء القلب كانت كل حرب تنتهي بانتصاره وثباته، وإن كانت بوادر الانتصار لا تظهر إلا بعد مغادرته الكرسي، لأن هناك مِنْ قومي مَنْ لا يعجبه أحد. لم تكن سيرته الذاتية المحفوظة بعقل كل مواطن سعودي عن ظهر قلب إلا دليلاً واضحاً أن هذا الرجل كان استثناءً ومدرسة مستقلة، وشمساً مضيئة توزع كلماتها على من تلتقي به بالتساوي... أعجز عن أن اكْمِلَ أو التقي بالكلمات على خط توازٍ وأنا الحائر عن أي شيء أكتب؟ وفي أي محطة أتوقف؟ وبماذا أتحدث؟ عن رمز استثمر كل وقته لأن يعرف أن العمر أقصر من أن يضيع، خصوصاً لمواطن أمامه مهام عظيمة، وهو الذي أوكلت لها عمادة كلية جامعية في عمر ال «31»، وإدارة المؤسسة العامة لسكة الحديد في ال «33»، وتسلم حقيبة وزير للتجارة والصناعة في ال «36»، أي رجل هذا؟ وهل يرضى بعد كل هذه المهام إلا الصعود والصمود على القمة والاستيلاء على ذاكرة أجيال متلاحقة. ميزة الراحل الرمز غازي أن اسمه ضخم عملاق، نختلف ونتفق على عملقته، إلا أننا نتفق تماماً بأنه مواطن استثناء، ورجل مختلف، وجيل لوحده ونجمع على ذلك! ولذا لم يرحل عنا إلا بجسده وإلا فكل بقاياه هي معنا، إنه الحي ونحن الميتون! [email protected]