ان ملك فرنسا لويس الرابع عشر ملكاً مستبداً الا انه كان مشجعاً للفن والفنانين وعلى رأسهم العبقري «موليير»، الذي عانى من غضب المتزمتين وتشويههم لأفكاره حتى وفاته، ومن روائعه مسرحية «المتحذلقات» التي وجه فيها سهام نقده اللاذعة إلى التحذلق والتكلف، وكانا من الصفات السائدة في مجتمع باريس بخاصة بين نساء الطبقتين: الارستقراطية والوسطى، وهاهما فتاتان ترفضان الزواج من سيدين كريمين لأنهما لا يتقنان فنون الغزل، ولا يتشدقان بالألفاظ الضخمة، ولا يتحدثان بعبارات غير مفهومة باللغة اللاتينية تدل على أنهما من أهل الثقافة والمعرفة الواسعة، فيقوم خادمان بارتداء ملابس السادة والتقدم إلى الفتاتين، والتظاهر بكل ما تحلمان به في العاشق المثالي، من التحدث بكلام غامض ونثر عبارات الغزل المحشي بالزخرف اللفظي، الذي سرعان ما أوقع الفتاتين في حبالهما لتصورهما أن الخادمين نموذج مجسد للشابين العصريين المتمتعين بمعرفة الأساليب الرشيقة والحديث المناسب في الحب والحياة، لتكتشف الفتاتان لاحقاً الحيلة الساخرة التي نصبت لهما، فيسقطا في الامتحان سقوطاً يفضح السطحية والتفاهة في تفكيرهما ونظرتهما للأمور، وتكون المسرحية أدت غرضها في عرض ما يخفي ستار الأزياء الراقية والعطور النفاذة والألفاظ المدوية من قلب خال من المشاعر، وعقل بعيد عن أي فكر أصيل. كلمة أخيرة: التكلف كذب وتزوير يشوهان السلوك الإنساني، ويؤثران سلباً في علاقة المرء بالآخرين، وكلما تقبل الناس التحذلق واعتبروه من مكملات واجهتهم الاجتماعية الثقافية تغير شكل الحقيقة، حتى لا نعد نميّز وجهنا الأصلي في زحمة الوجوه التي نلبس أقنعتها لنلعب أدوارها، ومن المفارقة المبكية أننا قد نصل إلى مرحلة لا نعد نستطيع معها خلع أقنعتنا، لأن وجهنا الأصلي قد تشوه وتمزق معه قناعنا المصطنع، وكلما كثرت «ماسكاتنا» فقدنا أنفسنا وأرواحنا معها، فما أغربنا عنا! يخبرنا الكاتب سلامة موسى أن ثمرة الإنسان في الحياة ليست في الاختبارات التي تقع له ولكن في استجاباته لما وقع له، وفيها يختلف بنو البشر، فمنهم من يستجيب بالاعتزال، ومنهم من يستجيب بالإقدام والانتفاع بالامتحان، ذلك أن الحياة لا تقاس بالطول وحده، بل إن لها عرضاً وعمقاً أيضاً، ولا يكون ذلك إلا بالانغماس فيها بمراعاة نوعية التوجهات! هل باقتناء الحذلقة اللفظية أم باقتناء العلوم والمعارف! بأن يكون المرء من الوجهاء الذين يسيرون في خيلاء زهواً واكتفاء بما وصلوا إليه، أم من العقلاء الذين يفكرون بوعي ويتابعون الثقافة بروح الطالب الذي تصغر همومه إلى جانب اهتماماته، ففي القراءة والكتابة وتذوق الشعر تخيّل للحال المثلى، واختيار لأسمى المعاني والألفاظ، فيرتفع المرء مع المداومة عليها عن التبذل، علماً بأن الدنيا حافلة بالتباسات للجهل الفاشي الذي يجد له دعامة بين المتعلمين الداعين إلى مزاعم وعقائد يوحون فيها إلى المتلقين بأنها آراء وحقائق، وفيها يقول جوتيه: «ليس هناك أفظع من الجهل النشيط». وقالوا: «إنهم يشربون السم في كؤوس من ذهب» سينيكا. [email protected]