عند أي حديث عن غازي القصيبي لا بد أن نضع نصب أعيننا مسيرته الناجحة والطويلة في خدمة الوطن عبر الوزارات والمناصب التي تسلمها وترك بها بصمة واضحة. وفي الوقت نفسه يستوقفنا الفقيد في عطائه الأدبي ونتاجه الفكري الذي ظلّ نقطة تحول في تاريخ المشهد الثقافي الحديث.وهذا بدوره يدفعنا للتساؤل، كيف كان لغازي أن يصبح مسؤولاً رفيعاً في السلطة وفي الوقت نفسه مثقفاً بارزاً له مواقفه، وهل من السهل تحقيق ذلك، في ضوء انجراف المثقفين إلى أحضان المؤسسة الرسمية للتنعم بخيراتها؟ يؤكد كتاب ومثقفون ل«الحياة» أن الراحل لم يسعَ إلى المناصب، وبالتالي كانت لديه هذه القناعة، أن المنصب لن يؤثر في مواقفه وفي حياته. ويقول الدكتور إبراهيم التركي: «غازي ولد كبيراً فظل كبيراً، لم يتسولِ المنصب، وفي أوج مجده كتب «رسالة المتنبي الأخيرة». وحين عاد قبل سنوات كتب في «مواسم» أنه لم يعد للوزارة إلا استجابة لطلب لا يرد من رجل يقدره، قال له: «أريدك بجانبي»، من هنا كان وظل سيدَ نفسه وقراراته فلم يرتهن لكرسي، ولم تملَ عليه كلمة». ويضف: «لذلك أصبح الاستثناء الذي يشذّ عن مدرسة القواعد من مستعبدي السلطة وعاشقي الأضواء، سيبقى غازي لكل الأجيال القادمة فما عبر بأرضنا مثله في شموليته وشموخه، ولكننا لن نعدم من يقترب من مداره ومساره، وأحسب أن عبدالكريم الجهيمان وعبدالله عبدالجبار وعبدالرحمن البطحي وعبدالله الغذامي نماذج مشرقة لذوي المواقف الكبيرة النزيهة الذين لم يميلوا بإغراء أو يتشوفوا لإمضاء». أما الشاعر غرم الله الصقاعي فيقول: «يعتبر الدكتور الشاعر الوزير غازي القصيبي حالاً نادرة في مشهدنا الثقافي والاجتماعي والسياسي. لذا من الصعوبة بمكان أن يستطيع أحدهم تصنيف القصيبي في أي مجال يكمن إبداعه، فعلى المستوى الثقافي والإبداعي يتمثل تميزه في أن له بصمته ولغته الخاصة وأفكاره ورؤاه التي لا تشبه غيره. وعلى المستوى الاجتماعي القصيبي رجل خير وعمل وإنسانية قل أن تجد لها مثيلاً، وعلى الجانب السياسي تميز الراحل بالإخلاص في عمله للوطن وللحكومة تميزاً تشهد به كل منجزاته في كل جوانب الوزارات أو السفارات التي عمل بها، ومن هنا يمكن توصيف حال صاحب رواية «شقة الحرية» بالظاهرة في مجتمعنا المختلفة عن كل الظواهر التي نعيش». ويشير الصقاعي إلى أن «التزام الراحل وإخلاصه واهتمامه بتنظيم وقته ووضوح أهدافه ومنطلقاته هي السبب الرئيسي في نجاحه وتميزه، وفي إبداعه المختلف عن الآخرين، ربما ليس من السهل على القصيبي أن يكون كل هذا التفرد والتميز وكل ها التنوع والعطاء والإنتاج من دون المساس بأي دور من أدواره المناطة به، ولكن ليس من الصعب أيضاً أن يكون بيننا أكثر من قصيبي، إذا فهمنا أن مؤسساتنا الثقافية التي يتسابق إليها الجميع، تمثل الركود والمكاسب الآنية فقط من مادية أو إعلامية ولكنها لا تعلمك الالتزام والنظام، بل تعلمك الفوضى وأحياناً تزودك بمهارات التكاسل والتزييف والتقليد». واعتبر أن القصيبي «أخلص لدينه ونفسه ووطنه وإنتاجه فبرز فيها جميعاً، كما أن إداراته للمؤسسات التي عمل بها تشهد بأنه إداري مميز، وهذا ساعده في إدارة حياته الشخصية والإبداعية». وختم الشاعر غرام الله قائلاً: «إن القصيبي رائد في مشهدنا الثقافي من خلال أطروحاته لا ريادة زمنية ولكن ريادة إبداعية، ليرحم الله القصيبي الذي علمنا كيف تكون الحياة جهاداً وكيف يكون الإبدع والعطاء التزاماً». ويقول الإعلامي عبدالله وافيه: «كان أمة في رجل. ترأس وزارات عدة وتقلد مناصب كثيرة فبث في كل وزارة ومنصب روحاً وأحياها بفن إداراته وصدق نواياه وإخلاصه وتفانيه في عمله وبُعد نظره وقراءته الاستشرافية للمستقبل، بما يعود بالنفع على الوطن والمواطن. نظيف اليد نقي القلب كل ذلك مكنه من أن يكون مسؤولاً في السلطة يعتمد عليه ويحظى بالتقدير من القيادة الكريمة والثقة الكاملة بأن غازي سيترك أثراً في كل وزارة، وكل منصب يتولاه. فحظي بالثقة في قيادة أربع وزارات وسفيراً في دولتين. هذا غازي حال استثنائية وعبقرية نادرة فهو كالبحر من حيث أتيته تجد غازي الوزير والمثقف والأديب والسفير والشاعر والروائي والناقد والمفكر»، مضيفاً: ولأن غازي مثقف حقيقي خاض معاركه الأدبية مع التيار المتشدد من دون أن يخشى على منصبه أو استعداء الشعب عليه من المحرضين والمرجفين. فكان صامداً ومتيقناً من أنه يرى أبعد من ما يرونه ويظنون به، فعينه كانت على الوطن ومستقبله أكثر من ما ينظر ويعتقد به معادوه. هذا غازي لا ينتمي إلا لنفسه الشفافة النقية لا يغرِه بريق منصب ولا حظوة ولا تزلف ولا جاهٌ في خدمة الوطن، وأن يقول رأيه ويعبّر عن فكره فانشغل غازي بوطنه وهمومه وانشغل غيره بالتحريض عليه وتعطيل كل فكر تنموي يخرجه لنا غازي من حقائبه». واعتبر وافيه أنه قلّما: «نجد من يخوض مثل هذه المعارك واتخاذ موقف في بعض مثقفينا الخائفين من انقطاع الخيرات من انتمائهم للمؤسسات الرسمية، فيهتمون بمصالحهم الشخصية على حساب الوطن وأبنائه وهذا ما لم يكن يفعله غازي رحمه الله، كانت مصلحة الوطن وأبناؤه مقدمة على مصالحه الشخصية، فكان قريباً من الجميع سواء غازي الديبلوماسي أو الأديب. يؤلف الكتب ويراسل حتى المؤلفين ليبارك لهم إنتاجهم ويشجع كل مؤلف على الإبداع فتتعجب من أين له هذا الوقت وهل ساعته كساعتنا ويومه كيومنا. يهتم بكل مؤلف مهما كان سنه ومنصبه وعلى يدي غازي خرج لنا كثير من الشعراء والروائيين. حتى على صعيد الرواية هو أول الفاتحين للرواية التي تنبش وتتحدث في المسكوت عنه وتتجاوز الخطوط الحمراء، فكان مؤسس مرحلة انتقالية في الرواية السعودية مشى على خطاه غالب الروائيين».