دائماً كان بيني وبين غازي القصيبي موعدٌ مؤجل. من بين قلّة قليلة من شعراء العرب الذين لم يسمح الوقت لمحاورتهم في «خليك بالبيت» الذي كان شاعرنا دائم الثناء عليه، ومع ذلك لم يجلس على كرسيه التي تعاقب عليها على مدى أربعة عشر عاماً مبدعو العرب من اقطارهم كافّة. تلك طبعاً خسارةٌ للبرنامج وللشاشة وللمشاهدين لأن «الضيف المؤجل»..... الى الأبد هذه المرة، صاحب تجربة جديرة بأن تُروى على الملأ، ولعلنا نعوّض تلك الخسارة بحلقة تناقش مسيرة الرجل وتستعيد تجربته المؤثرة. لست أدري ما الذي كان يخفف من حماسة القصيبي للمجيء الى بيروت التي يعشقها معظم أبناء جيله وأقرانه، كنت كلما هاتفته دعاني الى محاورته في لندن أو في الرياض، وكنّا نادراً ما نصور حلقات خارج لبنان إلا لمناسبة مهرجان أو منتدى ، وهكذا كان الموعد يؤجل مرّة تلو مرّة حتى حان موعد القضاء الذي لا منافس ولا رادَّ له. لم أحاور القصيبي مباشرة، لم التقه في لندن أو في الرياض أو في بيروت لكنني التقيته في «شقّة الحرية» وسواها من روايات ودواوين وكتب مثل العصفورية، معركة بلا راية،... من جزائر اللؤلؤ، حياة في الإدارة وسواها من أعمال قرأتها بمتعة وشغف خصوصاً حين كنت أقيس ما يكتبه بالظروف الاجتماعية والرسمية التي أحاطت به وبتجربته، وهو المقيم في قلمه وفي ألمه على حافة تناقضات كثيرة، وهو المعلي جسراً شائكاً بين نقائض وأضداد : كلاسيكيٌ منفتحٌ على الحداثة، متحررٌ لا يخلو من محافظة، ديبلوماسي ٌلم يتخل عن نزق الشاعر، رسمي لم يتورّع عن المشاكشة. وكأن قدره أن يعيش هذه الثنائيات التي لا أظن الإقامة فيه هينة أو يسيرة، ولعلها تدفع صاحبها ذا العلم الى مزيد من الشقاء وجحيم المعرفة. رغم فرادته بين أقرانه، لا مفاضلة ولا تقديماً أو تأخيراً عليهم، ولا من باب الأولويات الابداعية وتصنيف المبدعين على طريقة رافعي الاثقال أو لاعبي الجمباز، بل فرادته المتأتية من سطوة حضوره ورسمية مواقعه ومنصبه وميله الدائم الى مشاكسة نفسه أو موقعه. رغم تلك الفرادة، الا أن القصيبي يمثل في الوقت عينه جيلاً بأكمله من السعوديين الذين عاشوا مرحلة مفصلية من حياة وطنهم والمنطقة، ولعل «شقة الحرية» بمقدار ما هي سيرة شبه ذاتية، هي في الوقت عينه سيرة شبه جماعية لجيل كامل من أبناء الخليج وعلاقتهم بالأحلام العربية وتحولاتها وانكساراتها، وتحديداً بالتجربة الناصرية التي لا تزال رغم تقادم الأيام تثير الجدل والنقاش. أكثر ما سوف نفتقده في القصيبي حسّ المشاكسة والجرأة في التعبير عن موقف أو رأي لا يتماشى مع اللقب الرسمي فمعالي الوزير لا يستطيع أن يكون «معالي الكاتب» أيضاً وسعادة السفير لا يجوز أن يمسي «سعادة الشاعر»، وإلا حكم على نفسه وعلى تجربته بالتصحّر والتبلد واليباب. في الديبلوماسية نستطيع ارتداء أقنعة وقفازات، لكننا في الابداع الأدبي والفني نحتاج أولاً الى خلع كل الاقنعة والقفازات. القصيبي أدرك هذه المسألة جيداً لذا لم يمنعه موقعه الرسمي من كسر القالب والخروج عن المألوف مغلّباً الشاعر على الديبلوماسي، متكلاً في الوقت عينه على حصانة الشاعر والديبلوماسي معاً وإن كانت قصيدته الشهيرة لحظة سقوط الاستشهادية آيات الأخرس قد كلفته منصبه كسفير في العاصمة البريطانية. هل كان القصيبي يستلهم في قصائده الرافضة المتمردّة عمر أبو ريشة ونزار قباني وسواهما ممن تقاسم وإياهم الشعر والديبلوماسية والغضب؟ الله اعلم، لكن الأكيد من قراءة تجارب كل هؤلاء أن الديبلوماسي يستطيع أن يكون شاعراً، لكن الشاعر لا يستطيع أبداً أن يكون «ديبلوماسياً»...! بغياب القصيبي تخسر الكتابة العربية شعراً ونثراً أحد أعلامها وتخسر المشاكسة الواجبة والضرورية أحد رموزها كذلك تخسر القضية الفلسطينية أحد مناصريها والمدافعين عن عدالتها وأحقيتها، مثلما يفتقد التيار المناهض للتطرف الديني وللسلفيات الاصولية صوتاً من أصواته المؤثرة يرفع راية التفكير في زمن التكفير...وهل من شعر ونثر وابداع بلا مشاكسة ورفض وعصيان؟