طوال فترة تلقيه العلاج في مستشفى «مايو كلينيك» في ولاية مينيسوتا الأميركية، ألححت كما العديد من الأهل والأصدقاء، على الراحل غازي القصيبي السماح لي بزيارته. كنت أحاول وزوجته الصديقة سيغريد نسج ظروف الزيارة، لكننا فشلنا، وكان يقول في كل مرة انتظري... ثم بعد النجاح النسبي للعلاج الأولي، قال: أنا آتٍ الى البحرين فأهلاً وسهلاً. في الخامس عشر من أيار (مايو) الماضي حطت الطائرة الخاصة التي حملته وزوجته في مطار المنامة، وكان لقائي الأول مع الصديق غازي والعائلة في اليوم التالي. بدا غازي أكثر وسامة بعد خسارته الكثير من الوزن، الذي كان يصارعه طوال حياته، لم يكن وجهه شاحباً أو مريضاً بل علت سحنته معالم الرضا والسكون، وكيف لا وهو المؤمن بالله والقدر. بدا غازي كعادته فارساً متوقداً شامخاً حنوناً عطوفاً، ولكنه كان أكثر هدوءاً وصبراً، ولم تطل ابتسامته إلا عندما قبّل الأحفاد أو داعبهم واختفت الضحكة والسخرية والنكتة. اللقاء الأول سيطرت عليه فرحة العودة بالسلامة والأمل بالمستقبل ودوشة الأحفاد سلمى، ليث، سلمان، دانا، تالية، تميم وغاب عن اللقاء حفيداه فهد وغازي. كنت سعيدة بمراقبة غازي والاطمئنان عليه وتركز حواري مع الصديقة سيغريد.وبعد أكثر من ساعة شعرت أن عليّ الرحيل لأنني أريد أن أفسح له المجال للراحة، ولم يبدُ متعباً، وسألني «الى أين تذهبين؟». - لزيارة الشيخ خالد بن أحمد آل خليفة وزير الديوان الملكي البحريني... ويجيب: «الشيخ خالد صديقي... وهو زميلي في الشعر. بالله احملي إليه هذا الكتاب الذي ترجمته عن الإرهاب، هو قديم، لا أعرف ما إذا كان قرأه». ويضيف: «أنت تحبين البحرين». وأقول: وأنت تحبك البحرين... ويجيب: «حب متبادل والحمد لله... أحبني كثيراً الشيخ عيسى رحمه الله، وتجمعني والملك حمد صداقة ومحبة والبحرين بلدي وأهلها عشيرتي». لقائي الأخير مع غازي كان بعد عودتي من الشرق الأقصى، وفي منزله في المنامة، وكانت الغالية سيغريد تحضر مراسم دفن والدتها في ألمانيا. كان غازي في مكتبته الجديدة في منزله الجديد. ودام اللقاء نحو ساعتين، اهتم خلاله عبدو الذي عمل في منزل الدكتور غازي منذ عام 1984 وهو من أهل المنزل بتقديم الماء والشاي، وكانت هذه الدردشة التي جمعتُ بعض تفاصيلها من ذاكرتي، وطاولت الأصدقاء، الحياة والسياسة. استأذنت زوجته سيغريد، لنشر وقائع هذه الدردشة، التي بدا الراحل خلالها زاهداً بالمواقف الحادة، وجاء الحوار معه عميقاً وهادئاً. يسألني غازي: كيف كان حوارك مع رئيسة الفيليبين؟ كنت رافقتها خلال إحدى زياراتها الى المملكة، أعتقد بأنها سيدة مثقفة؟ أجيب: نعم، هذا صحيح، لكن هذا البلد فقير. يعلق غازي: الفساد، الفقر والجهل آفة هذه الدول، وهي لن تستقيم أحوالها، أليست هذه حال باكستان. قلت لي إنك تناولت الغداء مع الراحلة بينظير بوتو قبل رحيلها بأسبوعين. هل كانت تتحدث عن إمكانية موتها؟ كانت بينظير تشك في ان «طالبان باكستان» ستتعرض لها، وفي الوقت ذاته لم تكن تثق بأن النظام سيحميها. ولكن في آخر حوار هاتفي معها وقبل مقتلها بثلاثة أيام، بدت سعيدة جداً بما حصلت عليه من دعم شعبي، وكانت تقول أنها ستقيم الديموقراطية في باكستان. - مسكينة... ذهبت ضحية قدرها، كونها ابنة ذو الفقار علي بوتو. من كان يعتقد بأن زوجها سيستلم الحكم، غريب هذا القدر. المشكلة في مثل هذه الدول، أن من الصعب إيجاد ظروف مؤاتية دوماً لوجود أشخاص مثل بينظير بوتو، ذوي خبرة وخلفية سياسية وعائلية، وهي إضافة الى ذلك كانت حاصلة على شهادات من جامعة أكسفورد. هذا التطرف والإرهاب آفة تكاد أن تقضي على مجتمعاتنا. - هناك حرب بين التطرف والاعتدال... من سيربح؟ - الله أعلم... لكنها معركة شرسة. أنتم في السعودية نجحتم الى حد كبير... - الحمد لله، لكن الفئة الضالة لا تزال موجودة، والشعب السعودي لن يرضى بأن يمس أحد كيانه أو يستهدفه. حدثني وليم بيتي السفير البريطاني السابق في الرياض، (وهو اليوم سفير بلاده لدى افغانستان) مطولاً عن الجهود التي يقوم بها الأمير محمد بن نايف في محاربة المتطرفين في المملكة. - نعم، هذا صحيح، ما أخبار وليم؟ التقيته أخيراً في لندن قبل سفره الى أفغانستان وهو يرسل تحياته لك، ويقول انك ساعدته جداً في فهم الثقافة الإنسانية والسياسية السعودية وأنك مكّنته من حل أي مشكلة صغيرة أو كبيرة خلال فترة عمله، وقال أيضاً ان المملكة بحاجة ماسة لأشخاص معتدلين مثلك. - (لم يبتسم كأن هذا المديح لا يعنيه)... وليم ديبلوماسي جيد، خدم مصالح بلاده. قابلت رئيس الوزراء (السابق) توني بلير في منزله قبل أشهر، وخلال حوارنا شعرت بأنه غيّر رأيه حول حرب العراق، وبات يعتقد بأنه كان من الأفضل عدم خوض هذه الحرب. الوضع في العراق مأسوي، والتدخل الإيراني سافر، والعرب غائبون. - الوضع العربي لن يستقيم ما دامت الأحوال العربية الداخلية كما هي قائمة، ولن يتحسن وضع العرب وقضاياهم في الغرب، ماداموا يعيشون حال التشرذم هذه. ما أخبار كلير شورت، وزيرة التنمية البريطانية لما وراء البحار السابقة، والمعارِضة الشرسة للحرب على العراق؟ تقاعدت من عملها كنائبة وقالت انها تريد ان تكتب، وهي ناشطة سياسية. سألتني عنك وقالت إنك أكثر الديبلوماسيين حذقاً، وأظرف عربي تعرفت إليه، ولا تزال تذكر ذلك العشاء في منزلكم في لندن. - كانت مقتنعة بدعمي لها لتولي منصب المدير العام ل «يونيسكو»، لكن حكومتها لم تكن كذلك... إنها انسانة ظريفة، وصاحبة موقف، والإنسان الذي لا تكون له مواقف يكون ميتاً. قالت لي سيغريد انك تريد الذهاب الى الرياض لزيارة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز؟ - إن شاء الله بعد عودته من جولته في الخارج (مشيراً الى جولة خادم الحرمين الشريفين على الولاياتالمتحدة والمغرب ومصر ولبنان وسورية والأردن). الصحافة البريطانية تحدثت طويلاً عن زيارة الملك الأخيرة الى بريطانيا، وكان هناك إجماع على أنه إصلاحي. - أطال الله عمره، هذا صحيح. بعض الصحافيين البريطانيين يطرح تساؤلات عن آلية اتخاذ القرار في المملكة، ويثير تكهنات حول ما يزعم أنه تأثير الولاياتالمتحدة على السياسة الخارجية للسعودية. - خادم الحرمين الشريفين يأخذ القرارات بحكمته، يسمع للمستشارين، لكنه صاحب القرار. عندما اتخذ قرار المصالحة العربية في قمة الكويت، لم يكن احد منا يعلم بهذا القرار. ذروة السخف ان يتصور احد ان السعودية يمكن ان تخضع لضغوط أو تتخذ قرارات لمجاراة أي جهة غربية، أميركية أو غيرها». ويتطرق الحديث الى الإعلام والإعلاميين العرب، وخلاصة رأي الراحل ان الضعف العربي يعني عدم وجود قوة إعلامية مؤثرة في الغرب. وعن العدالة يقول: المؤسف ان العدالة اليوم لا تتحقق إلا بالقوة. وعن التقسيم الجغرافي لبعض الدول العربية يقول: آمل ألاّ تحظى مشاريع التقسيم الجغرافي بالنجاح، لأن فتح باب الفوضى سهل لكن إغلاقه صعب جداً. ويرى ان «من المفجع اعتقاد الغرب بأنه اخترع حقوق الإنسان». وبعد حوار عن فترة عمله في السفارة السعودية في لندن قال: كتابي «سعادة السفير» فيه الكثير من الحقائق، والواقع اعيد قراءته، ولا شك انك ستتعرفين إلى كل شخصية فيه. انا عندما أترك عملاً لا أعود إلى زيارته بل أركز على عملي الجديد. وتطرقنا ايضاً الى الندوات القيّمة والمعرض الذي أقامته مؤسسة الملك خالد بن عبدالعزيز الخيرية في الرياض، وبصماته الواضحة في عهد الملك خالد. وأبلغته تحيات الأميرة بندرى بنت خالد. قال: «لقد أحبني الملك خالد كأحد أبنائه وأوكل إليّ مسؤوليات، آمل بأن أكون وُفّقت فيها. كان رحمه الله مثال الملك الصالح. ولقد زارتني الأميرة بندرى بنت خالد والأميرة بندرى بنت عبدالرحمن الفيصل، وطلبتا مني افتتاح هذا المعرض والمشاركة في الندوات. ولكن كما ترين الوضع، لم أستطع القيام بذلك. ودار حديث عن منزله الجديد الذي وضع به «شقا العمر»، وبدا فخوراً جداً بمكتبته التي تحتوي آلاف الكتب، وقضى فيها آخر أيام حياته، وكان حلمه رحمه الله أن يتقاعد، ويتفرغ للكتابة ولزوجته وأحفاده وصيد السمك. رحم الله الصديق غازي القصيبي، فهو خسارة ليس فقط لأهله وأصدقائه، بل كذلك لأمته.