يصحّ في لبنان تعريف سيغموند فرويد الشهير ل «الحضارة»: إنّها قمع الغرائز. والغرائز التي ينبغي قمعها، هنا، هي تلك التي تزيّن لصاحبها أنّه يعيش وحده في الدنيا، يقول على الملأ قوله الداخليّ الحميم، ويمارس في صلاته بالآخرين المختلفين ما يمارسه حين يكون وحده أو مع مشابهيه. بمعنى آخر، ينطوي كلّ تعايش بين مختلفين على درجة من «الكذب» النافع الذي يُديم تعايشهم، بل يُديم بقاءهم ذاته، سامياً بهم إلى سويّة تسوويّة حافظة للنوع البشريّ ومحسّنةً لجودته وشروطه. فإذا حلّ محلّه «الصدق»، انتفى التعايش وهُدّد البقاء نفسه. ذاك أنّ صدقاً كهذا، مهما أطنبت الانشائيّات في مديحه، مضادّ للاجتماع الإنسانيّ، أنانيّ ومتعجرف، لا يرى صاحبُه إلاّ شخصه في هذا الكون الواسع، ولا يقبل رؤية مشتركة تطاول الحيّز المشترك بين مختلفين، بل يصرّ على رؤيته التي يقول بها بينه وبين أهله وربعه. في مسلسل «المسيح» التلفزيونيّ الإيرانيّ، الذي عُرض في لبنان ثم أوقف عرضه، شيء من هذا القبيل. ذاك أنّ أحد أطراف الشراكة المفترضة ناب عن الآخر في صورته إلى ذاته وفي روايته عنها. وهو، بنيابته هذه، كان يلغي الآخر الذي لا يملك أيّاً من احتمالات القيام بعمل مماثل. ولأنّ عملاً من هذا النوع غير مألوف بتاتاً في لبنان ذي الطوائف السبع عشرة، وذي الثقافات الفرعيّة السبع عشرة، دلّ الأمر إلى بُعدين متلازمين: أحدهما شعور المُلغي بقوّة فائضة تحمله على إسباغ الضعف الفائض على المُلغى. ولا يخفّف من هذا السلوك أيّ «تفاهم» مع الجنرال ميشال عون وتيّاره وجمهوره، إن لم نقل إنّ «التفاهم»، بإذعانه والتحاقه، يحضّ عليه!. والثاني، برّانيّة المُلغي الذي لم يفكّر لبنانَ مرّة بوصفه بلداً يقوم على التعايش بين مختلفين، وعلى مراعاة كلّ مختلف للمختلف الآخر. وواقع الحال أنّ تلك القوّة الفائضة لم تنجم، مهما قيل العكس، إلاّ عن تلك البرّانيّة. فليس سرّاً أنّ بندقيّة المقاومة تملك لوناً طائفيّاً معيّناً، وأنّ المقاومات السابقة، «الوطنيّة»، التي لم تملك مثل هذا اللون قد كُتب عليها الهلاك. لكنّ مسلسل «المسيح»، إلى هذا، يملك قيمة رمزيّة، وربّما فعليّة، أخطر. فليس جديداً في لبنان فرض سيناريوات وخطط سياسيّة على شرائح عريضة جدّاً من اللبنانيّين لا توافق على تلك السيناريوات والخطط. وليس جديداً، بالتالي، مطالبة جماعات بأكملها بدفع أكلاف لا تقلّ عن الحياة والموت من دون أن يكون لها رأي في ذلك. لكنّ الخوف الآن، وعلى هامش ذاك المسلسل ودلالاته، أن نكون باشرنا الانتقال من فرض السياسات إلى فرض العبادات. ذاك أنّ الطرق سالكة على خطوط الاستبداد لا تجد من يردعها، فيما النفس «الأمّارة بالسوء»، أمّارة أيضاً بعيوب أخرى، في عدادها قضم كلّ سلطة يمكن قضمها، في الدنيا كما في الدين.