جمع غازي القصيبي بين موقعه الرسمي، ومكانته الشعبية، على نحو يعد سابقة في الحكم والإدارة. وهو مارس توفيقاً وتناقضاً بين المكانتين بطريقة لم يحققها أحد من قبل. لم يفقد أياً من الموقعين، أو يضحي به على حساب الآخر. كأنه بالتناقض قرّب الشاعر الى الوزير، وحمى الشاعر من السفير. انحاز غازي للشاعر في داخله ضد الوزير في عهد الملك فهد، وكتب قصيدة شهيرة مطلعها «بيني وبينك ألف واش ينعب/ فعلام أسهب في الغناء وأطنب»، وفقد منصبه. وسرعان ما عين سفيراً في البحرين، فوجد الملك الراحل أن القصيبي صار سفيراً مختلفاً، فعينه سفيراً في بريطانيا. فعاود الانحياز الى الشاعر مرة أخرى، ورثى الفتاة الفلسطينية آيات الأخرس التي فجرت نفسها في عملية انتحارية، وخاطبها بعروس العوالي، فأغضب بريطانيا، وعاد الى بلاده وزيراً. لا شك في أن غازي القصيبي أدار الجدل، وان شئت الصراع، الذي في داخله، بين شخصية الوزير والمسؤول ورجل الدولة من جهة، وشخصية الفنان والشاعر والروائي والكاتب والمفكر من جهة ثانية، على نحو درامي متقن، ومثير للإعجاب والدهشة. جعل من الصراع انسجاماً وسكينة وتألقاً. كان يبدو متصالحاً مع نفسه طوال الوقت، رغم ضجيج الصراع، وإن شئت التناقض، في داخله. ليس هذا فحسب، بل هو استطاع، على مدى اربعة عقود، أن يطمئن أهل الدولة انه منهم، وأن ولاءه لهم. ويقنع أهل الشعر والأدب والفن انه رفيق هموهم ومعاناتهم. ويشعر الناس انه وزيرهم وشاعرهم وكاتبهم ومفكرهم. غازي لم يكن يلعب دوراً، ويستعير الآخر. كان رجل دولة بامتياز، وشاعراً ومبدعاً بامتياز في آن. الأكيد أن غازي القصيبي له صفة أولى، وأخرى وصيفة. مكانة أصيلة، وأخرى تالية او رديفة. غازي كان شاعراً وكاتباً وأستاذاً جامعياً، ومفكراً فريداً قبل ان يكون وزيراً. لكن عظمة غازي القصيبي انه جمع هذه المواهب والقدرات وجعل منها شخصية يصعب تفكيكها، او تمييز او تفضيل بعضها عن بعض. كان القصيبي شاعراً كبيراً، وكاتباً مبدعاً، ووزيراً نزيهاً وشريفاً وناجحاً. وبرحيله فقد الشعب السعودي علماً كبيراً في الإدارة، والإبداع، والتجديد، والشجاعة، والجرأة، والفروسية في الحوار والاختلاف. رحم الله غازي القصيبي.