أبدى علماء شرعيون سعادتهم الغامرة بالأمر الملكي الذي أعلن أول أمس، وشدّد فيه خادم الحرمين الشريفين، على وجوب قصر الفتاوى الشرعية على أهل العلم المعتبرين من أعضاء هيئة كبار العلماء، ومن تزكيهم من «أهل الذكر» الراسخين والمؤهلين للتوقيع عن رب العالمين. وقال عضو مجلس الشورى الشيخ حاتم العوني «جاء قرار خادم الحرمين الشريفين في وقته، حفظاً للدين من تطاول الجهلة وأنصاف المثقفين عليه. ولا شك أن هذا القرار ستتبعه قرارات أخرى تعززه وتجعله واضحاً في الواقع العملي، وهذا القرار وما ستتبعه من قرارات عملية ستقوي من أداء هيئة كبار العلماء، بما سيجعلها أقدر على القيام بالأعباء الجليلة لهذا القرار الكبير. وستظهر آثار هذا القرار في الأيام المقبلة، والتي لا يمكن أن تخالف سياسة خادم الحرمين الشريفين التي قامت على الحوار والانفتاح، والتي لا تواجه الفكر إلا بالفكر». وأكد أن القرار الملكي «ينبغي أن نجمع بينه وبين سياسة الملك السابقة، ونجمع بينه وبين أحكام الإسلام المجمع عليها، لأن قراره (وفقه الله) قرار إسلامي، جاء لخدمة الإسلام، فلا يمكن أن يُفهم بما يعارض هذا الأساس الثابت. فمن أحكام الإسلام المجمع عليها: أن الاختلاف المعتبر لا يجوز إنكاره، ولا إلزام الناس بقول من أقواله. وفي ذلك يقول الإمام النووي: «الاختلافُ في استنباطِ فروعِ الدِّينِ منه، ومناظرةُ أهلِ العلم في ذلك، على سبيل الفائدة وإظهارِ الحق، واختلافُهم في ذلك ليس منهيًّاً عنه، بل هو مأمورٌ به، وفضيلةٌ ظاهرةٌ. وقد أجمع المسلمون على هذا، من عهد الصحابة إلى الآن». ويقول أحد علماء المالكية في ذلك، وهو الإمام أبو سعيد فرج بن قاسم الشهير بابن لُبّ الغرناطي (ت782ه)، وذكر خلافاً في مسألة من المسائل الفقهية: «وهب أن ثَمَّ قولاً بالمنع أو الشدة، فإذا أخذ الناس بقول مخالف لقول آخر: فلم يختلف العلماء أنهم لا يجرحون بذلك، ولا يُفسقون. ولو كان هذا [يعني: لو كان العلماء يجرحون ويفسقون من أخذ بقول من الاختلاف المعتبر] لكان اختلافُ العلماء من أعظم المصائب في أهل الإسلام: فساداً وشتاتاً وطعناً، يكفّر بعضُهم بعضاً، ويلعن بعضُهم بعضاً». وأشار إلى أن من أحكام الإسلام المتعلقة بالاختلاف المعتبر التي لا يصح فَهْمُ قرار الملك بخلافها أن «الأقوال المعتبرة لا يجوز لأحد أن يمنع من الإفتاء بها ولا العمل بها، لا اجتهاداً ولا تقليداً؛ إلا في حال واحدة، سيأتي التنبيه عليها. وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: وقد سئل عمّن يقلِّدُ بعضَ العلماءِ في مسائلِ الاجتهاد، فهل يُنكَرُ عليه؟ أم يُهْجَر؟وكذلك من يعمل بأحد القولين؟ فأجاب: «الحمد لله: مسائل الاجتهاد مَنْ عَمِلَ فيها بقولِ بعضِ العلماءِ لم يُنكر عليه، ولم يُهجر، ومن عمل بأحد القولين لم يُنكر عليه. وإذا كان في المسألة قولان: فإن كان الإنسان يظهر له رُجْحَانُ أحدِ القولين عملَ به، وإلا قلّدَ بعضَ العلماءِ الذين يُعتمد عليهم في بيان أرجح القولين». وتحدث عن ذلك جمع من العلماء، وكلهم ينص على أن القول من الاختلاف المعتبر لا يجوز لأحد أن يمنع الناس من الإفتاء أو العمل به اجتهاداً أو تقليداً. ولذلك فلا يصحّ أن يفسر بعض الناس قرار الملك الذي جاء لإعزاز الدين وأهله بما يخالف الدين وإجماع أئمة المسلمين، بل هذا فيه أبلغ الإساءة لقرار الملك (وفقه الله تعالى). ونتيجة لذلك قال: «ينبغي أن نفهم قرار خادم الحرمين الشريفين على أنه يمنع من الإفتاء بالأقوال الشاذة غير المعتبرة، ويبقى أن تحديد القول الشاذ من غيره له ضوابطه المعلومة، وقد بينتها بوضوح في أحد كتبي، وهو كتابي (اختلاف المفتين)، لأنه لا يصح أن تبقى هذه الضوابط مفتوحة لمتشدد أو متفلت! ليمارس هؤلاء تصفية الأقوال بحسب أهوائهم ورغباتهم: إلى معتبرة وغير معتبرة، وشاذة وغير شاذة». وأما متى يجوز المنع من العمل بالقول من الأقوال المعتبرة، فأجاب «الأصل في كل قول معتبر أنه مباح، والمباح حلالٌ طيب، والحلال الطيب لا تترتب عليه مفسدة، وخروجه عن هذا الأصل الأصيل لا يكون إلا في حالات طارئة وقليلة جداً. وفي هذه الحالات الطارئة والقليلة يجوز منع العمل بالقول المعتبر للمصلحة العامة، ولكن يجب أن نعلم أن هذا المنع خلاف الأصل، وإذا أمكن إزالة المفسدة الطارئة على العمل بالقول المعتبر فيجب ذلك عليناً، ليعود العمل بالقول المعتبر مسموحاً به نظاماً كما كان مسموحاً به شرعاً». ومن جانبه، اعتبر القاضي في المحكمة الجزائية في الرياض الدكتور عيسى الغيث، الأمر الملكي «عالج ثلاث قضايا كبرى كانت محل خلاف خلال الفترة الماضية، وهي قضايا الفتوى والخطابة والحسبة، فالفتوى تم قصر ما يتعلق بالشأن العام على هيئة كبار العلماء، وأما الشأن الخاص فعلى أعضائها عبر وسائل الإعلام والدعوة من دون غيرهم، وأما ما سواهم ففي الفتاوى الخاصة الفردية وليست الجماعية والتي لا تكون علنية وبضابط حدد في الأمر الملكي بكونه بين السائل والمسؤول وغير معلنة كمن يسأل مواجهة أو على الهاتف، وأما في وسائل الإعلام والدعوة فليست إلا لأعضاء الهيئة، وقصرت على ثلاثة أنواع، هن مسائل العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية، وأما ما سواها كمسائل العقائد والتفسيق والتبديع والتكفير ونحوها فليست إلا للهيئة، وأما من جهة الخطابة، فتشمل منابر الجمعة ومحاضرات المساجد ودروسها ومناشطها بحيث لا تخالف في مسألتي الفتاوى والحسبة». وأضاف: «أمّا من جهة الاحتساب فهو بثلاثة أنواع، الأول الميداني ويختص به جهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وينتهي دور المتطوعين بالتبليغ ولا يجوز لهم الاحتساب على الناس ميدانياً كما هو حاصل، والنوع الثاني الاحتساب القضائي، ويختص به هيئة التحقيق والإدعاء العام وينتهي دور المحتسبين بالتبليغ ولا يجوز لهم رفع الدعاوى الاحتسابية على الأفراد أو المؤسسات مباشرة كما حصل في بعض القضايا، والنوع الثالث الاحتساب عبر البيانات الفردية والجماعية، وهذا ممنوع، ولذا وجه الأمر الملكي الكريم إلى تسع جهات لتقوم جميعها بدورها في جميع ذلك، تجاه من يخالفون من منسوبيها بشأن الفتاوى العلنية الأرضية أو الفضائية أو الخطب والمحاضرات والدروس أو الحسبة الميدانية والقضائية والبيانات الفردية والجماعية، وأقترح إضافة جهة عاشرة وهي وزارة الإتصالات وتقنية المعلومات بشأن مراقبة التزام مواقع الانترنت وقنوات الجوال بهذه المسائل وعلى وجه الخصوص الفتاوى والحسبة، لأنهما أداتان خطرتان، ورأينا خلال الفترة الماضية كونهما المؤثر الأول في تلك الفتاوى الشاذة والمعتدية على الحقوق الخاصة والعامة، وفي جانب تهييج وتحريض الناس في الحسبة الميدانية والقضائية والبيانات الفردية والجماعية». ومن أهم ما أشار إليه الأمر الملكي في نظر الغيث «نصه على منع مشاركة القضاة في ميادين الحسبة وقضاياه وبياناته الجماعية، وهو الذي سبق طرحه في تحقيقات إعلامية وكتابات صحافية، والآن فصل الموضوع وحسم بأمر ملكي صريح، ولم يبق إلا التنفيذ على جميع الجهات التسع ذات الاختصاص».