مواقف عدة وتصريحات كثيرة وتعليقات من دون حدود رافقت إثارة قضية بلدة الغجر، تدعي ان رئيس حكومة اليمين الاسرائيلي بنيامين نتانياهو على استعداد لتنفيذ القرار 1701، بالانسحاب من شطرها الشمالي ونقله الى منطقة نفوذ لبنان على ان تتولى قوات «يونيفل» الادارة الأمنية في المنطقة ... وهذه ليست المرة الاولى التي تنجح وسيلة اعلام اسرائيلية في اشغال اوساط اعلامية وسياسية عربية وعالمية في موضوع يتضح في نهاية الامر ان اهدافاً عدة تقف خلف اثارته. ففي محصلة اثارة هذا الموضوع، عبر صحيفة «هاآرتس»، خرج نتانياهو رابحاً. فقد اظهر للأمم المتحدة انه يرفض خرق قرار دولي وأكد للولايات المتحدة الأميركية رغبته في التقدم نحو السلام مع كل جيرانه العرب بمن فيهم لبنان. اما المكسب الاكبر للاسرائيليين ومن وقف خلف اثارة هذا الخبر، فهو انهم حاولوا دق اسفين بين اللبنانيين عشية الانتخابات لدى ترويج البعض ان قرار نتانياهو يأتي ضمن بادرة حسن نية لدعم «المعتدلين» في لبنان. وليس هذا فحسب بل تجاوز البعض في الترويج الى حد الادعاء ان نتائج الانتخابات اللبنانية ستحسم في موقف نتانياهو. بمعنى آخر فإن قوة «حزب الله» في لبنان بعد الانتخابات ستؤثر على سياسة بنيامين نتانياهو وتوجهه في اتخاذ القرار حول مصير هذه المنطقة. والواقع أن نتانياهو، سواء كان يقف خلف اثارة هذا الخبر او فوجئ به كغيره، نجح في استغلاله حتى النهاية. فبعد ساعات من نشره بعث بمندوبه، نائب وزير تطوير الجليل والنقب ايوب القرا، ليطمئن سكان الغجر بأن رئيس الحكومة لن يتخذ قراراً في شأن مصيرهم قبل الاجتماع بهم والاستماع الى رأيهم ونفى ما نشر في الصحيفة بل اعتبر الامر ترويجاً اعلامياً لا أساس له من الصحة. ونجح في تهدئة سكان الغجر الذين يرفضون الانسحاب الاسرائيلي بالطريقة التي يتحدثون عنها، اذ ان الانسحاب الى الحدود الدولية يعني شق القرية الى نصفين وتمزيق العائلات. فالمعروف ان الغجر، عندما احتلت عام 1967 كقرية سورية، كانت قرية صغيرة جداً محصورة في المنطقة السورية المحتلة. ولكن بسبب غياب ترسيم للحدود بين سورية ولبنان، فقد راح السكان يبنون البيوت الجديدة في الشمال، أي في عمق الأراضي اللبنانية. وهكذا أصبحت نصف بيوت القرية في لبنان. ويصر أهالي الغجر على التمسك بهويتهم السورية ويرفضون تقسيم القرية أولاً، ثم الانضمام الى لبنان ثانياً. وتجاوبوا مع طلب الاجتماع مع أيوب القرا وأرادوه اجتماعاً سرياً بعيداً من وسائل الاعلام. وعندما توجهنا الى رئيس مجلس بلدية الغجر لسماع رأيه في الموضوع رفض الحديث وتذرع بحجج تثير اسئلة كثيرة لما يكمن خلف طرح القضية وبحثها. ولكن واضح في الموضوع ان وضع قرية الغجر هو اليوم تماماً كما كان بعد حرب لبنان الثانية، اي منطقة عسكرية مغلقة ترفض اسرائيل التنازل عن سيطرتها الامنية عليها وتسليمها للبنان بذريعة انها لا تريد أن تتحول الى بوابة ل «حزب الله». وهذا الموقف طرح بحدة بعد اثارة القضية ليس فقط من جانب اليمين واليمين المتطرف بل أيضاً من نواب في حزب «كاديما»، الذين يبدون سياسة اكثر ليونة تجاه السلام في المنطقة. فقد حذر النائب نحمان شاي من خطورة اتخاذ خطوة كهذه لما تشكله من خطر على أمن اسرائيل وقال في شكل واضح» اذا سلم الشطر الشمالي من الغجر للبنان، بغض النظر عن من هو الطرف الحاكم، فإن أحداً لا يمكنه ضمان أمن اسرائيل». وشاركه الرأي نواب آخرون اعتبروا ان التعامل مع قضية الغجر بمعزل عن مزارع شبعا وسلام اقليمي يشمل لبنان وسورية هو أمر مرفوض وبرأيهم اذا كان رئيس الوزراء السابق ايهود اولمرت، رفض تنفيذ القرار وهو الذي بذل كل جهد لتحقيق انجاز سياسي واحد على الاقل قبل مغادرته منصبه، فإن الوضع مع نتانياهو بوجود وزير خارجيته افيغدور ليبرمان ووزراء من اليمين والمتطرفين سيكون اكثر تعقيداً. والموقف الاسرائيلي تجاه قضية الغجر كان اكثر وضوحاً من جانب نائب وزير الخارجية، داني ايلون عندما صارح في لقائه رئيس قوات حفظ السلام آلان لوروا ان الضغط على اسرائيل لتنفيذ القرار 1701 لن يجدي نفعاً اذا لم تنفذ شروط تضعها تل أبيب. وبحسب ايلون فإن اولى الشروط التي تطالب بتنفيذها قبل الانسحاب من شبر واحد من شمال الغجر ان تحصل على تعهد من الاممالمتحدة بالعمل على ضمان تنفيذ الحكومة اللبنانية لمضمون القرار الدولي الى جانب شرط بذل «يونيفل» جهوداً جدية لضمان تنفيذ القرار خصوصاً في ما يتعلق بتهريب الاسلحة من سورية الى «حزب الله»، وهو الجانب الذي تعتبره اسرائيل خرقاً غير مقبول للقرار الدولي بل يشكل خطراً على أمن حدودها الشمالية مع لبنان. ولم تكتف اسرائيل بهذه الشروط انما تطالب بتعهد دولي بموقف واضح وموحد وصريح يضمن نزع سلاح «حزب الله» ووقف تهريب الاسلحة. إما كلنا للبنان وإما ننتظر السلام مع سورية قضية الغجر ستكون واحدة من القضايا التي سيطرحها بنيامين نتانياهو، خلال زيارته الى واشنطن ولقائه الرئيس الاميركي باراك اوباما، ضمن تطرقه الى الملف السوري - اللبناني ولن يكون ذلك بادرة حسن نية من نتانياهو ولا حتى اظهاراً لرغبته بالسلام بل هو تجاوب مع طلب الموفد الاميركي الى الشرق الاوسط جورج ميتشل خلال زيارته الاخيرة الى اسرائيل تنفيذ القرار الدولي 1701 بالانسحاب من الشطر الشمالي من قرية الغجر. والمتوقع ان يكون الرد الاولي لنتانياهو التجاوب مع هذا الطلب ليس فقط لأنه سيكون طلباً صغيراً امام ما ينتظر نتانياهو من مطالب اميركية خصوصاً في الملفين الفلسطيني والايراني بل لتوقع نتانياهو صعوبات في مناقشة بقية الملفات. والى حين وصول نتانياهو الى واشنطن فإن ملف الغجر سيتفاعل بين المؤسسات الرسمية من جهة ووسط سكان القرية من جهة اخرى. موفد نتانياهو الى سكان الغجر نائب الوزير ايوب القرا قال في شكل واضح ان اسرائيل تتعرض لضغوط اميركية ومن الاممالمتحدة، وفي حال تشديد هذه الضغوط من طرف واشنطن فستكون مضطرة لتنفيذ القرار. ولكن قبل ان يصل الوضع الى هذه المرحلة ستقوم الحكومة بخطوات تحاول خلالها تعديل القرار بحيث يتجاوب مع رغبة السكان في عدم تقسيمهم ونقلهم الى لبنان. وقال: «القرار بنقل الشطر الشمالي من القرية الى لبنان هو خطأ كبير، اذ من غير المعقول تقسيم عائلات بأكملها وتهجيرها الى بلد هو غير موطنهم في الوقت الذي يحمل سكان القرية الجنسية السورية. وبحسب القرار فقد شرعت اسرائيل بخطوات دولية للضغط لتعديل القرار بحيث لا يتم نقل السكان الى الغجر ليصبح مصيرهم كبقية القرى السورية في الجولان المحتل. قلة من وجهاء قرية الغجر يوافقون على الحديث عن الموضوع فهم في حال ارتباك وحذر فيما الناطق بلسان المجلس المحلي، نجيب الخطيب يقول في شكل واضح ان سكان القرية يرفضون ان يصبحوا لاجئين عبر نقلهم الى لبنان مشدداً على انهم يطلقون صوتاً واحداً برفض مفاوضة اي طرف على مصير هذه القرية بغياب صاحبة الحق، أي سورية، ويعلن «على جثثنا ستنقسم القرية وتنضم للبنان». ولكن يبدو ان الاجواء التي سادت المحادثات مع الاهالي حول تنفيذ القرار أضفت اجواء غير مريحة حيث تراجع السكان عن موقفهم السابق برفض الانضمام الى لبنان واطلق نجيب الخطيب تصريحات قال فيها ان الجميع يدركون انه اذا قررت اميركا ان القرار سينفذ فالاحتمال الكبير تنفيذه بصرف النظر عن المعارضة ويضيف: «سنكون امام واقع يؤدي الى تنفيذ القرار، ولذا فإننا في مثل هذه الحال نقول اما الانضمام الى لبنان كلنا ومعنا 11 ألف دونم من الارض تحاول اسرائيل السيطرة عليها، وإما ان نبقى كما نحن اليوم الى حين التوصل الى اتفاق سلام لنعود مع بقية القرى الدرزية في الجولان المحتل الى سورية». وعلى رغم هذا الموقف الصريح الا ان سكان القرية مقتنعون بأن وضعهم سيبقى على حاله وستنضم الزوبعة الاعلامية الى الكثير من سابقاتها. فهم يدركون ان قريتهم تعتبر قضية امنية كبيرة لاسرائيل وهي تضعهم في سجن كبير منذ العام 2000 بعد اعلان المنطقة منطقة عسكرية مغلقة. وقد يتعرضون لضغوط اكبر مع تصعيد اصوات اليمين الداعية الى تشديد الوضع الامني في القرية لعدم استغلال التطورات الاخيرة وتسلل عناصر من «حزب الله» او تنظيمات معادية الى اسرائيل لتنفيذ عمليات ضد اهداف اسرائيلية. ويرى بعضهم انه لو كان لدى اسرائيل نيات في تغيير سياستها تجاه الغجر لما ابقت القرية منطقة عسكرية مغلقة. ذاكرة سكان الغجر لا تخونهم فهم باتوا على قناعة بأن قريتهم اداة يستخدمها السياسيون لتحقيق اهداف خاصة بهم. فمثل هذه المعركة التي يخوضونها اليوم، عشية اول زيارة لنتانياهو الى واشنطن، خاضوا مثلها قبل الانتخابات البرلمانية التي أجريت في اسرائيل وانتخب فيها ايهود اولمرت. ففي حينه تصاعدت تصريحات مسؤولين من «يونيفيل» ومصادر اسرائيلية تؤكد وجود اتفاق حول مصير الشطر الشمالي من قرية الغجر، وروج قبل الاعلان عن الانتخابات البرلمانية في اسرائيل انه سينفذ آخر الشهر الجاري، وبأن مسؤولين يتوقعون تأجيله بسبب الاوضاع الداخلية في اسرائيل. وفي حينه نشرت التفاصيل الكاملة لاقتراح انسحاب تقدمت به «يونيفيل» وبموجبه ينسحب الجيش الاسرائيلي من المنطقة ويسلم المسؤولية الامنية لقواتها في مرحلة أولى، تنتقل بعدها مسؤولية هذه المنطقة الى لبنان. اما المسؤولية المدنية فلم يتوضح مصيرها. آنذاك عقدت الحكومة الاسرائيلية جلسة خاصة لكن الوزراء لم يطلقوا كلمة واحدة عن الموضوع، وباستثناء ما سرب من ان اسرائيل تواصل بحث الموضوع وتريد أولاً ضمان أمن حدودها وتطالب بإبقاء الوجود الاسرائيلي في هذا الشطر من القرية عبر مواصلة السيطرة المدنية عليها، لم تبد اسرائيل موقفاً واضحاً ولم يحدث اي تقدم في القضية داخل المؤسسة الاسرائيلية ذات الشأن في نقاش الموضوع. في حينه بعث سكان القرية برسالة الى مايكل ويليامز المنسق الخاص للأمم المتحدة وممثل الأمين العام في لبنان ونسخة منها الى الجنرال كلاوديو غراتسيانو، قائد قوات «يونيفيل» في جنوب لبنان اوضحوا فيها موقفهم الرافض لقرار التقسيم. وأثيرت ضجة محلية وعالمية انتهت بهدوء من دون ان تتقدم القضية خطوة واحدة الى الامام. وهذا ما يتوقعه كثيرون اليوم.