رئيس مجلس إدارة الهيئة السعودية للمقاولين يفتتح النسخة الثالثة عشرة من معرض Big 5 Construct Saudi 2025    جمعية الذوق العام تنظم مبادرة "ضبط اسلوبك" ضمن برنامج التسوق    مستقبل غزة ومصير الهدنة يتصدران المباحثات    200 ألف طالب وطالبة يؤدون اختبارات نهاية الفصل الثاني بالطائف    السعودية تعرب عن دعمها الكامل للإجراءات التي اتخذها لبنان لمواجهة محاولات العبث بأمن مواطنيه    المنظمات المتعلمة: من الجودة إلى الريادة العالمية    مصرع 15 شخصًا في تدافع بمحطة قطارات في الهند    "الإحصاء" التضخم في المملكة بلغ 2.0%    استعدادات لإطلاق مؤتمر العلا للأسواق الناشئة    قبيلة "القصادة" تحتفل بزواج الشاب سفر قصادي    الذكاء الاصطناعي ودور المترجم البشري    "كبدك" تقدم الرعاية لأكثر من 50 مستفيدًا    أمطار رعدية وسيول في عدة مناطق    قمة «IAAPA» في الرياض.. مركز عالمي للوجهات الترفيهية    مرموش.. صاحب أسرع هاترك عربي في البريميرليج    وزير الدفاع يستعرض العلاقات وأوجه التعاون الإستراتيجي مع نظيره الأمريكي    دبلوماسية ولي العهد توحد العرب والعالم    الجبير: التحديات البيئية والتغير المناخي يؤثران على جميع نواحي الحياة بما فيها الأمن والاستقرار العالمي    وزير الرياضة يتوّج «رولاند» بلقب الجولة الرابعة من سباق جدة    الشنقيطي: سنستمر في الصدارة    في ختام الجولة 20 من دوري روشن.. الاتحاد يعزز صدارته ل " روشن" برباعية الوحدة    رسميا.. الهلال يطالب بحكام من النخبة لإدارة مبارياته    في كأس آسيا للشباب المقامة بالصين.. الأخضر الشاب يواجه العراق لتعزيز الصدارة    السجن والإبعاد لمقيم بتهمة التستر في التموينات    قائمة المدعوين ل«الحوار السوري» تثير الجدل    جدد رفضه المطلق للتهجير.. الرئيس الفلسطيني أمام القمة الإفريقية: تحقيق الأمن الدولي يتطلب دعم مؤتمر السلام برئاسة السعودية    انتقلت إلى رحمة الله في المنامة وصلي عليها بالمسجد الحرام.. مسؤولون وأعيان يواسون أسرتي آل زيدان وآل علي رضا في فقيدتهم «صباح»    الأرصاد: الأجواء معتدلة في رمضان    23 ألف مخالف في قبضة الأمن خلال أسبوع    عدم تعمد الإضرار بطبيعة المنطقة والحياة البرية.. ضوابط جديدة للتنزه في منطقة الصمان    استمع إلى شرح موجز عن عملهما.. وزير الداخلية يزور» الحماية المدنية» و» العمليات الأمنية» الإيطالية    «نبتة مصاص الدماء» تزهر في روسيا    فحص يتنبأ بخطر السرطان بدقة 90%    فجوة الحافلات    جبال السعودية حصن فلسطين    تحول الإعلانات إلى قوة ناعمة    لونك المفضل.. يكشف مهنيتك في العمل    التحالف الإسلامي العسكري نموذج يحتذى    تآلف الفكر ووحدة المجتمع    إيلون المجنون يغضب منافسه ألتمان    «ليب».. أحلام تتحقق    تكساس تشهد أسوأ تفش للحصبة    عبدالعزيز بن سعود يزور وكالة الحماية المدنية الإيطالية    "أبواب الشرقية" إرث ثقافي يوقظ تاريخ الحرف اليدوية    843 منافس في مسابقة شاعر الابداع بعنيزة    برعاية محافظ الزلفي: تعليم الزلفي يحتفي بيوم التأسيس    قصة الدواء السحري    قصة نجاة في الصحراء !    بينالي الفنون الإسلامية    احتمالات اصطدام الكويكب 2024 YR4    عيد الحب: احتفاء بالمعنى الأزلي للحب    الحيوانات تمرض نفسيا وعقليا    الذوق العام تطلق مبادرة "ضبط أسلوبك" بالتزامن مع تسوق شهر رمضان المبارك    مفتاح حل المشاكل    الشام وخطوة الاتصال اللحظي أو الآني    عبدالعزيز بن سعود يزور وحدة العمليات الأمنية المركزية الإيطالية    أمير الباحة يعزّي الزهراني بوفاة ابنه    في يوم النمر العربي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكتابة والمحو ... بحث في السيرة الموؤودة
نشر في الحياة يوم 27 - 08 - 2016

ليس من اليسير على المرء أنْ يقف على تجربة حافلة بالأحداث والإنجازات لعالمٍ كان له فضل المساهمة في صوغ مشروع تنويريّ من دون أنْ يستقريَ محطات تنشئته الأولى، ويقف على ملاعب صباه ومحطات نشأته وتكوينه الشامل. ولعّل هذه الغاية تقتضي الإفلات من شروط الخطاب التأبيني والمناقبي التي تضع أمام الباحث والناظر حجابًا من الاستجابات القائمة على التأثّر والانفعالات.
لم يكتب ناصر الدين الأسد سيرته الذاتيّة الأدبيّة التي تجسّد حضوره النصيّ في الواقع والوجود؛ إذ حرص على أنْ يتولى الآخرون كتابة هذه السيرة بما يتوافق مع الهيئات التي كانها والمواقع التي تسنّمها والشروط الموضوعية التي شهدتها مراحل حياته المتنوّعة من دون أنْ يعنيَ ذلك أنّ الأسد جاهلٌ أهمية السيرة وقيمتها الثقافيّة، ولا عاجزٌ عن كتابة نصّ سيريٍّ رفيع لا يقلُّ خُلودًا عن نصّ «الأيّام» لأستاذه طه حُسين سيّما أنه يملك شذرات سيرة ذاتية غنية وخصبة. وهذا يعني أنّ ناصر الدين الأسد تعمّد وأد سيرته الذاتيّة وضيّع كنزًا ثقافيًّا كبيرًا كان يُمكن أنْ يمثلَ رصيدًا مهمًّا لراهن الثقافة العربية ومستقبلها معًا.
تتولّد السيرة الذاتيّة، وفق إحسان عبّاس في فن السيرة، من حسٍّ تاريخيّ يقوم على تصوّرٍ جوهريٍّ مُفاده؛ أنّ الإيمان بقدرة الإنسان العظيمة على الممارسة والفعل والإنجاز والإنتاج يشكل عبقريّة الفرد ودوره الكبير في تكييف الأحداث، وإعداد محطاتها الأساسية. ومتى كان هذا الحسّ غائبًا كان الفرد منفصلاً عن مجتمعه، لرغبته في أنْ يُنظرَ إليه نظرة منفصلة بوصفه الحقيقة الكبرى.
محو السيرة الذي أراده ناصر الدين الأسد يخالف تقليدًا علميًّا آخر أقرّته فلسفة العلوم الإسلامية يتمثّل في أنّ ترجمة النفس تُؤكّدُ انتماء المُسلم إلى تقاليد الإسلام التي تُلزم العلماء بكتابة تراجمهم تعبيرًا عن فكرة مركزية ترتكز على دور الإنسان في خلافة الله في الأرض وعمارتها، فضلا عن التحدّث بنعم الله، والتعبير عن الفضائل والشمائل الحميدة المنتمية إلى جوهر الإسلام. لقد كتب أعلام القرن العشرين سيرهم التي أصبحت تقليدًا أدبيًّا راسخًا بدءاً بأحمد أمين، ومحمد عبده، وعباس العقاد، وطه حسين، والشيخ كشك، وأحمد لطفي السيّد، وميخائيل نعيمة، وإحسان عباس، وحمد الجاسر، وعبد الرحمن بدوي، ومحمود السمرة، وعبد الوهاب المسيري وغيرهم من هؤلاء الأعلام.
كان ناصر الدين الأسد يمتلك أداة السيرة الذاتية وموضوعَها غير أنّه لم يمتلك مفاتيح ذاته التي استعصت على فعل «المباوحة والمصارحة»، فهل كانت ذاتُ ناصر الدين الأسد المُتماهيةُ مع الذوات الشعريّة الجاهلية، والمعتمدةُ على خطاب يملك ذاكرةً جماعيّةً مُتعاليةً على شرطها التاريخيّ؟
شذرات السيرة الذاتيّة الأسديّة شديدةُ التقشّف وهي مبثوثة في حوارات ولقاءات متنوعة بعضها منشورٌ وآخر خاصٌّ مودع في صدور صفوة أصحابه وعارفيه. ومن أبرز هذه الشذرات ما قدّمه ناصر الدين الأسد في المجلس التكريميّ في اثنينية الشيخ عبد المقصود خوجة سنة 2002. وفي هذا المجلس كشف ناصر الدين الأسد عن علاقته بالشعر الجاهلي التي ترجع إلى تنشئته الأولى، وهي تنشئة عاشها في البادية وشرقي الأردن التي كانت كلها في عهد طفولته الأولى بادية بما فيها عمّان.
لا يحتفي ناصر الدين الأسد بالذات لعلمه أنّه مقيم خارج الجماعة، وأنّ وعيه الذاتي مُجسّدٌ وحاضرٌ في موقع آخر، لذلك وجد سكينته في الانفتاح على الشعر الجاهليّ برواته ونصوصه وشخصيات شعرائه وأبطاله وقصصهم وأخبارهم وغواياتهم. يقول ناصر الدين الأسد: «أحب أيضًا أن أشير إلى أنني لم أوف موضوع علاقتي بالشعر الجاهلي حقَّه في مقدمة كتبي سواء كانت هذه الكتب في البحث أو في التحقيق (القيان والغناء في العصر الجاهلي)، و(مصادر الشعر الجاهلي وقيمتها التاريخية)، وديوان قيس بن الخطيم، وديوان الحاجرة الذبياني، والكتاب الذي أصدرته قبل سنتين عن نشأة الشعر العربي في الجاهلية بطبيعة الحال هذا أمر معروف، وعن تطوره في ذلك العصر، لم أوف موضوع صلتي بهذا الشعر، ولكننا الآن في معرض المباوحة والمصارحة».
يبدو ناصر الدين الأسد مُعتدًّا بنشأته في البادية لكنه لم يُعلن أنه بدويّ، فكلّ ما يهمّه تأسيس حضوره في البادية والتشبّع بموجوداتها ومكوّناتها. يقول الأسد: «كانت العقبةُ وهي حيث ولدت ثم الكرك، والشوبك، ووادي موسى، ومعان، وأخيرًا عمان، كلها بوادٍ، أرقاها هي قرية حضرية، وأحب أيضًا أن أشير في هذا المجال إلى أن البادية قد تختلط أحيانًا بالحضر أي بالاستقرار بالمعنى اللغوي لكلمة الحضر، وأنا أستأذنكم في أن أشير إلى ذلك بعد قليل إذا أسعفتني الذاكرة، هذه البيئة البادية بما كانت تضمه، ولا يغرنّكم ما ألبس هذه الأيام، كانت تضم بيوت الشعر، وكانت تضم الثوب البدوي العادي، وكانت أيضًا من معالمها الخيول، وقد نشأت بينها، وأرجو أن تعذروني إذا قلت إنه كانت لنا فرس، دخلت فيها وعمري ثماني سنوات في سباق ووقعت من ظهرها وأصبت في ظهري حينما وقعت في ذلك الوقت، وكان لها فِلْو (مهر) طبعته وروضته بنفسي كما نقول طبعته في بلادنا روضته بنفسي ولم يكن يسمح لأحد بأن يركبه سواي، هذه البيئة البدوية لازمتني إلى أن بلغت نهاية المرحلة الابتدائية وبداية ما يسمى المرحلة الإعدادية، وكانت المناهج الدراسية حينئذ مختلفة عن هذه المناهج اليوم، فكنا نُعلَّم مختارات من المعلقات ومن الشعر الجاهلي في الصف الخامس الابتدائي حينئذ، وحين كان المعلم يقرأها وكنت أعود إلى البيت فأستعيدها كنت أحسّ بأنها قريبة من نفسي وأنها - أقول مختارات وليست كل المعلقات، لأنها في تلك السن المعلقة كاملة كانت عسيرة علينا بطبيعة الحال- فكنت أحس بأنها تصور بيئتي، وتصور نشأتي، وتصوّر ما في نفسي فارتبطت بهذا الشعر الجاهلي من خلال ما درسته حينئذ من المعلقات».
لا يُقدّم لنا ناصر الدين الأسد الحاضنة الاجتماعيّة التي نشأ فيها بل نراه يؤكّد انتماءه إلى الشعر الجاهلي، يقول الأسد: «وحين أنهيت المرحلة الإعدادية وبدأت في المرحلة الثانوية وتلك أيام تختلف عن هذه الأيام، قرأت كتاب الدكتور طه حسين فأصابني بالفجيعة بشيء أعتز به، هذا الشعر الذي يصور نفسي ويصور بيئتي، ويصور قيمي، أيضًا بما فيها من نخوة ومروءة وما فيها من فروسية، فعزمت على أن أغوص في أعماق هذا الشعر لأستبين حقيقته، ثم كان ما كان فهذه هي المرحلة الأولى التي ربطت ما بيني وبين الشعر الجاهلي، ولم أذكر تفصيلاتها ولا بعض تفصيلاتها في الكتب التي ذكرتها لكم، ثم بعد ذلك تبين لي ما في هذا الشعر الجاهلي من روائع ظلمها أكثر النقاد».
أمّا المدينة الأولى التي عرفها الأسد فلم يبح بتفاصيل تجربته فيها، وإنما يمضي على ذكرها مرورًا عابرًا، يقول الأسد: «وأنا لم أعرف المدينة إلا حينما أوفدتني وزارة المعارف الأردنية - كما كانت تسمى حينئذ - إلى القدس فكانت القدس هي أول مدينة أراها».
كان بمقدور الأسد أنْ يسترسل في الحديث عن علاقته بالملك عبدالله الأول بن الحسين ورعايته له. كان على الأسد الذي عمّر ما يقارب قرنًا من الزمان أنْ يسرد عن افتتاح الجامعة العبرية في القدس سنة 1925، وعن حضور بلفور حفل الافتتاح، ومشاركة أبي الليبرالية المصرية أحمد لطفي السيد الحفل ممثلاً عن الحكومة المصريّة. كان على الأسد أنْ يروي بعض تفاصيل إقامته في القدس، وأنْ يتحدّث عن زملائه في الكلية العربية في القدس؛ إسحاق الحسيني، ونقولا زيادة، وأحمد سامح الخالدي، وعلاقته بالملك حسين، وعن دوره في كتابة خطبه، وبيان إذا ما كان كاتبًا شبحًا من مطلع الستينات إلى أواخر الثمانينات. غير أنّ الأسد لم يباوح قرّاءه بل كتم علمًا وأسرارًا كبيرة وكثيرة، ومارس حجبًا لكل هذه العلاقات المهمة التي ساهمت في تكوين خبراته المعرفية الخلاّقة.
من الممكن العثور على شذرات سيرة الأسد من خطاباته المناسباتيّة، إذ يبيّن لنا خطابه بمناسبة تكريم المؤرّخ عبد العزيز الدوريّ أنّ ناصر الدين الأسد، أستاذ اللغة والأدب العربيين وأوّل رئيس للجامعة الأردنية، مثّل صوت الانفتاح المعرفي على مؤسسة الاستشراق الغربي. يقول الأسد في الكتاب الذي أصدرته مؤسسة عبد الحميد شومان بمناسبة تكريم الدوري: «وكانت الجامعة الأردنيّة حريصةً على استقدام عدد من المُستشرقين فاستقدمت امبرتو ريدستانو وشارل بيلا. ريدستانو الذي كان رئيسًا لقسم اللغة العربيّة وآدابها في جامعة صقلية، ألقى محاضرات مدة شهر عن العرب في صقلية. وأمّا «شارل بيلا» الذي كان مُتخصصًا في الجاحظ فألقى محاضرات عنه، وكان إلقاؤهما باللغة العربية، وكانت المحاضرات مطبوعة، وأقول هذا اليوم لأؤكّد أنّ مجيء هؤلاء الأساتذة لم يكن دائمًا من أجل نقصٍ في عدد الأردنيين في الجامعة الأردنيّة، وإنما من أجل تطعيم الأفكار وتبادل المناهج، لإيجاد مجتمع علميّ عربيّ وعالميّ «استشراقيّ» في الجامعة الأردنيّة».
غير أنّ السؤال الذي يحضر في هذا السياق: لماذا لم يكتب ناصر الدين الأسد سيرته؟ يمكن العثور على إجابة هذا السؤال في كتاب «الذات تصف نفسها» لجوديث بتلر التي ترى أنّ تحقق الذات لا يتكوّن إلا عند أفول الروح الجماعيّة، ما يعني أنّ الأسد الممتلئَ بكل أسباب الحضور المسكونَ بذاكرة الجماعة في الشعر الجاهليّ ظلّ رازحًا تحت تأثير الوعي الجمعي وسيرورته التي تأبى تحويل الذات إلى كينونة غريبة. لذلك محا الأسد سيرته وعطّل فعل الذاكرة ليس لأنه يملك ذاكرة مُعوّقة، وفق بول ريكور، بل لأنّ ذاته مُقيمةٌ في ذات مجموعة تأبى الاختزال وتستعصي على الانفلات من رحم الجماعة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.