الدعوة إلى الله عمل جليل لا يناله إلا صفوة الخلق الذين استخلفهم الله لأداء الأمانة، وتبليغ الرسالة، وخلافة الأنبياء في مهمتهم، يقول تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، ومن علو منزلتهم ورفيع قدرهم أضافهم الله إلى نفسه وسماهم (الربانيين)، يقول سبحانه: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ)، و كلمة (الربانيين) وإن اختلفت أقوال المفسرين فيها، إلا أن معناها متقارب وهو العالم الفقيه الداعية الذي يستطيع أن يسوس الناس بعقل وحكمه، ويربي طلبته على صغار العلم قبل كباره. وقد شرط الله على الداعية إليه شرطيين: «إلى الله» و«على بصيرة»، يقول تعالى: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)، وتأمل «إلى الله» أي مخلصاً لوجه الله لا لنفس المرء ولا لمنصب ولا جاه أو مال، وقد أزعجني ما نشر في صحيفة «الرياض» في 10 شعبان 1431ه عن ارتفاع أسعار الدعاة لليلة الواحدة، وقد شككت في الصحة حتى استبنت مما نشر ولي مع التقرير وقفة: - هل الداعية طُلبت منه محاضرة تثقيفية أو دورة تدريبة، لأن الثانية تختلف عن الأخرى في كل شيء ابتداء من الإجراءات والتنظيم وعدد المستفيدين وشهادات الحضور واعداد الحقائب التدريبية وما إلى ذلك، أم أنها محاضرة عامة تلقى للجميع، ولا تستلزم هذا كله؟ - من المنظمون لهذه الأمسيات؟ هل هي قطاعات خاصة تتاجر أيضاً باسم الدين، وتجلب الدعاة المشهورين ليأتي المحبون لهم، وتستنزف أموال الحاضرين بمبالغ مهولة؟ قد يحدو بالبعض لبيع علبة الماء بأضعاف ثلاثة عن سعرها، وكذا بعض المشروبات، ومهما يكن لا ينبغي للداعية أن يروج للقطاعات الخاصة المتاجِرة باسم الدين، فالدين له هيبته وحماه الذي لا يقترب من سياجه، وليس من الشرع في شيء أن يجعل الداعية اسمه شبكة لاصيطاد أموال الناس من خلال قطاعات خاصة. ولا إخال طالب علم فضلاً عن داعية إلى الله لم يدرس أو يُدرس في حلقته لطلابه، ما أورده الشيخ محمد بن عبدالوهاب في كتاب التوحيد «باب من الشرك إرادة الإنسان بعمله الدنيا» وقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، وجاء في تيسير العزيز الحميد شرح كتاب التوحيد «قد ظن بعض الناس أن هذا الباب داخل في الرياء، وأن هذا مجرد تكرير فأخطأ، بل المراد بهذا أن يعمل الإنسان عملاً صالحاً يريد به الدنيا كالذي يجاهد للقطيفة والخميلة ونحو ذلك، ولهذا سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً لذلك بخلاف المرائي، فإنه إنما يعمل ليراه الناس ويعظموه، والذي يعمل لأجل الدراهم والقطيفة ونحو ذلك أعقل من المرائي، لأن ذلك عمل لدنيا يصيبها. والمرائي عمل لأجل المدح، والجلالة في أعين الناس، وكلاهما خاسر نعوذ باللّه من موجبات غضبه وأليم عقابه». وفي البخاري من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبدالخميصة، إن أعطي رضي وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش، طوبى لعبد آخذ بعنان فرسه في سبيل الله، أشعث رأسه مغبرة قدماه، إن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الساقة كان في الساقة، إن استأذن لم يؤذن له، وإن شفع لم يشفع». إن الداعية إلى الله ليس ممثلاً ولا فناناً يستغل شهرته ومحبة الناس له ليتاجر بما لديه من بضاعة مزجاة وفن رخيص، إنه يتاجر بدين الله وشرعه، وقول الله ورسوله، ولا ينبغي إطلاقاً أن يُقارن بين أولئك والدعاة، لأنه قياس مع الفارق، وهو عند الأصوليين قياس باطل، ورحم الله الأول حين قال: (ألم تَرَ أنّ السيف ينقص قدره// إذا قيل إن السيف أمضى من العصا). ثم إن الفنان والممثل قد أعلن أن هذه مهنته التي يتكسب من خلالها، وتدر عليه الأرباح وتسكنه أفخم القصور، وتركبه أثمن السيارات، فهل الداعية كذلك؟ إذاً لا داعي لدروس الزهد، والتحذير من الرياء وإرادة المؤمن بالآخرة الدنيا، وإلا كان ممن يقولون ما لا يفعلون، وقد قال الله عن أولئك: (يأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)، وقال: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ). فليتق الله من ينتسب إلى الدين وأهله، من يوم تبلى فيه السرائر، وليعلم أن هذه الحياة أيام معدودات، أم أنه كلام يردده على مسامع الناس وكأن الله لم يعنه به، نعوذ بالله من الدنيا وفتنتها. * داعية، وأكاديمية سعودية.