ثمة كائن خرافي يجوب شوارع لبنان هذه الأيام. لا معنى سياسياً لهذه العبارة، ولا يتضمن الأمر إشارة الى الحال المتشابكة التي يعيشها البلد. هناك كائن خرافي يجوب شوارع لبنان. يمتلك أربعة أيدي، وستة أرجل، وثلاث أجساد ومثلها من الرؤوس. ويجمع بين الأنوثة والذكورة أيضاً، أو بالأحرى لا يهمه أن يكون طوراً أنثى خلابة وتارة ذكراً وسيماً. لا يسير هذا الكائن فعلياً بين الناس، لكن المتجولين بسياراتهم في الطرقات يألفونه جيداً. لا يسير. ولكنه ينتشر صوراً على الطرقات، بالأحرى لوحات الإعلانات. أربعة أيدي، كي تحمل جزادين أكثر. ثلاثة أجساد كي ترتدي أنواع المايوهات. ستة أرجل ليُشترى لها أزواج متعددة من الأحذية. ثلاثة رؤوس ذكورية لتلبس أنواع القمصان وربطات العنق ونظارات الشمس. إنه وحش الاستهلاك، بالأحرى إنه الانسان الذي تريده الشركات وحشاً إستهلاكياً. لم يعد خيال جسد الاستهلاك يكتفي بالإنسان الفرد. تفرض الشركات "إنسانها" بأجساد متعددة وأعضاء لا حصر لها، كي يشتري أكثر ويستهلك أكثر، كي لا يشعر أن جسده يتجدد، إلا بمقدار ما يشتري ويدفع وينفق ويستهلك. لا يرتكز هذا الإعلان على منطق الحاجة الذي ألفت الشركات طويلاً تطويعه ليكون باباً واسعاً لإستهلاك لا يتوقف. يتلاعب منطق الحاجة بالعواطف، فيربطها بأنواع السلع، مثل العطور والشامبو والفساتين الفاخرة والساعات ومزيلات الروائح والمشروبات وغيرها. تروّج الشركات أن الحاجة للآخر لا تُلبى، إلا بسلعها التي لا تكف عن التكاثر. لن يلفت شعرك حبيبك إلا إذا غُسل بهذا الشامبو، ولن يستجيب لإغراء أنوثتك إن لم تظللها مساحيق ومراهم وعطور بعينها. يحتاج الطفل أن ينمو، لكنه لن يصل الى تلبية هذه الحاجة إن لم يشرب حليب هذه الشركة. وتحتاج الى سجائر من هذا النوع، كي تظهر ذكورتك قوية بما يكفي لجذبهن. القائمة طويلة ومألوفة بالنسبة لتلاعب إعلانات السلع بمنطق الحاجة. ولكنها كانت غالباً، تكتفي بالجسد الفرد، أو بالأحرى بالإنسان ذو الجسد الفرد. ومع هذا الإعلان الذي تمدد على لوحات الإعلانات في شوارع لبنان منذ مطلع الصيف، قفز منطق التلاعب الى مستوى أشد ضراوة. لم يعد خطاب الاستهلاك يكتفي بالإنسان الفرد. وسرعان ما فبرك وحشاً مضاعف الحاجات، ما يعني مضاعفة شرهه للسلع واستهلاكها. لأسباب كثيرة، يفتح تعدد الجسد على آفاق اخرى ثقافياً وسياسياً، تعاكس ما يتضمنه وحش الاستهلاك الخرافي. فمثلاً، يفتح الجسد المتعدد ثقافياً فرصة أمام التنوّع والغنى في هوية الفرد وذائقته ثقافياً. وفي السياسة، يعطي التعدد مدخلاً للسير في دروب الحداثة والإنفتاح والتقدّم. وتعرف التجربة السياسية لبنانياً أن صعود التعدد يسير في البلد الى الأفضل، وأن الميل الى غير المتعدد، باب مفتوح على هاوية سحيقة. واللافت أن وحش الاستهلاك الخرافي إنفلت في أجواء لبنانية تشهد تقلّص الفردية وتعددياتها أمام طغيان هوية الجماعة الواحدة، وكذلك تضاؤل التعدد سياسياً أمام صعود المذهبية والطائفية وما تحمله من صراعات بين هويات لا تتصالح بسهولة مع التعدد، ما يهدد الدولة التي ظلت متماسكة حول فكرة التعدد فيها. ربما يحتاج هذا الأمر كلاماً كثيراً في السياسة والثقافة. وللكلام أكثر من بقية!