الطريق نفسه لم تغيره يوماً منذ عملت في وكالة الأنباء في باب اللوق. المسافة قصيرة إلى بيتها وكان في شارع ضيق متفرع من ميدان طلعت حرب. سكن صغير. حجرتان وصالة. ورثته عن أمها. حفظت قدماها الشوارع، تقودانها وهي شاردة، تتخطيان الحفر وأكوام القمامة، وتتفاديان الأرصفة المكسورة، تقفان من دون وعي منها أمام المطعم، تطلب ما تريد أن تأخذه إلى البيت، ويشير أحد العاملين إلى مقعد حتى تجهيز الطلب، لحظتها تنتبه من شرودها وتكتشف أن قدميها خدعتاها، جاءتا بها إلى محل السمك بدلاً من محل الكباب. أكلت في اليومين الماضيين ما يكفي من السمك. تغمغم في استسلام: طيب. اعتادت أن تشتري في المرة عشاء يومين توفيراً للوقت الذي يضيع في المطعم، ويتغير مذاق الطعام في اليوم التالي، غير أنه صالح ويسد جوعها. لا تتحمس للأكل في المطعم. تقعد في مسار الداخل والخارج والعيون تتجه في فضول إلى ما في طبقها ثم تصعد إلى وجهها. تفضل البيت، تكون براحتها، تكتفي بلبس سترة البيجامة، تتحرك هنا وهناك وتدندن بأغنية قديمة لعبدالوهاب. العمل في الوكالة لا يسمح بلحظة فراغ. تتناول سندويشات خفيفة في غدائها وهي تقرأ تقارير المراسلين، وترى صور القتلى من الأطفال الفلسطينيين وأشلائهم المتناثرة والنساء المبقورة بطونهن، وتقول إنها ستعتاد رؤية هذه الصور ولن تجعلها تفسد لحظة تناولها السندويشات، غير أنها في كل مرة كانت تحس بمعدتها تضطرب وبرغبة في القيء، وتهرع إلى دورة المياه. بعدها كانت تأكل وظهرها للمكتب. يوماً رأت صورة جعلتها تبكي في طريق عودتها إلى البيت، والمارة يحدقون بها. كانت أربع صور متتالية لمشهد واحد. امرأة تلبس جلباباً أسود وطرحة من اللون نفسه حول رأسها تمد ذراعيها لتصد القادم ووجهها متقلص بالصراخ والرعب، تحمي بجسدها الممتلئ طفلة تشبثت بمؤخرتها والجندي يصوب نحوهما رشاشه من فوق مصفحة. الصورة التالية: المرأة لم تغير من وقفتها وظهر جانب من وجه الطفلة خلفها تختلس النظر إلى المصفحة وإحدى يديها تمسك بجلباب المرأة عند مقعدتها وقد علقت به نتف من الخوص، وفي خلفية الصورة فرشة من الخوص وشبشب صغير بجواره آخر كبير وإحدى فردتيه مقلوبة. الصورة الثالثة: المرأة ممددة على جنبها، مقوسة وقد ظهر من تحت الجلباب طرف سروالها الطويل وذراعها حول الطفلة وكانت مستلقية على ظهرها متباعدة الساقين والبلوزة منحسرة عن بطنها العاري وسرّتها بارزة. الصورة الرابعة: المصفحة تبتعد مخلفة الجثتين وخوذة الجندي تلمع في أشعة الشمس. نظرت إلى رئيسها وكان واقفاً بجوارها ينظر إلى الصورة. قال رداً على نظرتها: - آه. طبعاً. أرسليها الى الموقع. - وتقرير المراسل؟ - عنوانه ايه؟ - النازيون الجدد. - نقّحيه وأرسليه. أن تنقّحه، فهذا يعني أن تعيد صياغته بلغة محايدة خالية من الانفعال. لحظة وتستعيد هدوءها، جففت عينيها وأخذت علبة السجائر وفنجان القهوة إلى الشرفة. وقفت تنظر إلى الشارع والناس تذهب وتأتي.